بقلم السيد عبد الحسين الغريفي المشهدي
الحمد لله رب العالمين، ثم الصلاة والسلام على سيّد الخلق أجمعين سيدنا ونبيّنا أبي القاسم المصطفى وعلى آله الطيبين الطاهرين، واللعن الدائم على اعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين.
وبعد:
كَانُوا قَوْماً مَنْ أَهْلِ الدُّنْيَا وَلَيْسُوا مِنْ أَهْلِهَا، فَكَانُوا فِيهَا كَمَنْ لَيْسَ مِنْهَا، عَمِلُوا فِيهَا بِمَا يُبْصِرُونَ، وَبَادَرُوا فِيهَا مَا يَحْذَرُونَ، تَقَلَّبُ أَبْدَانُهُمْ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ أَهْلِ الْآخِرَةِ، يَرَوْنَ أَهْلَ الدُّنْيَا يُعَظِّمُونَ مَوْتَ أَجْسَادِهِمْ وَهُمْ أَشُدُّ إِعْظَاماً لِمَوْتِ قُلُوبِ أَحْيَائِهِمْ([1]) .
شرح الألفاظ الغريبة:
بادروا المحذور: سبقه فلم يصبه: تقلب أبدانهم: أي تتقلب، أي أن أبدانهم وهي في الدنيا تتقلب بين أظهر أهل الآخرة، وهو بين ظهرانّيهم أي بينهم حاضراً ظاهراً: ظهراني: - بفتح النون - الإشارة إلى بعض أصحابه الذين درجوا قبله([2]).
الشرح:
قوله: «كانوا قوماً..» إلى قوله: «أهلها»: قضيتان ظاهرهما التناقض لكن قد علمت أن المطلقتين لا يتناقضان، واختلافهما يحتمل أن يكونا بالموضوع أو بالإضافة فإنهم من أهل الدنيا بأبدانهم ومشاركتهم الضرورية لأهلها في الحاجة إليها وليسوا من أهلها بقلوبهم. إذ خرجوا عن ملاذها ونعيمها واستغرقوا في محبة الله وما أعد لأوليائه الأبرار في دار القرار فهم أبداً متطلعون إليه وشاهدون لأحوال الآخرة بعيون بصائرهم كما قال (عليه السلام) فيما قبل في صفتهم: فهم والجنة كمن قد رآها فهم فيها متنعمون، وهم والنار كمن قد رآها فهم فيها معذبون. ومن كان كذلك فحضوره القلبي إنما هو في تلك الدار فكان بالحقيقة من أهلها.
وقوله: ((عملوا فيها بما يبصرون)): أي كان سعيهم وحركاتهم البدنية والنفسانية في سبيل الله ببصيرة ومشاهدة لأحوال تلك الطريق وما تفضي إليه من السعادة الباقية، وعلم بما يستلزمه الانحراف عنها من الشقاوة اللازمة الدائمة، والباء للتسبب، وما مصدرية ويحتمل أن تكون بمعنى الذي: أي بالذي يبصرونه ويشاهدونه من تلك الأحوال فإن علمهم اليقين بها هو السبب القائد والحامل لهم في تلك الطريق وعلى سلوكها.
وقوله: ((وبادروا فيها ما يحذرون)) والمبادرة المسابقة والمعاجلة وهي مفاعلة من الطرفين، والمراد أنهم سابقوا ما يحذرون من عذاب الله المتوعد في الآخرة كأنه سابق لهم إلى أنفسهم وهم مسابقوه إلى خلاصها فسبقوه إلى النجاة إذ كانوا راكبين لمطاياها ومتمسكين بعصمها وهي أوامر الله وحدوده.
وقوله: «تقلب..» إلى قوله: «الآخرة»: أي تتقلب، فحذف إحدى التائين تخفيفاً. فالمعنى ان دأبهم معاشرة أهل الآخرة والعاملين لها دون أهل الدنيا، وقيل: يحتمل أن يريد بأهل الآخرة سائر الناس لأن مستقرهم الأصلي ودار قرارهم هي الآخرة كما قال تعالى: {وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ}([3])والمعنى على هذا الوجه أنهم مع الناس بأبدانهم فقد تتقلب بينهم وأرواحهم في مقام آخر.
وقوله: «يرون..» إلى آخره الغرض الفرق بينهم وبين أهل الدنيا إذ كان أهل الدنيا لا يرون أن وراء أبدانهم كمالاً آخر فكانوا غافلين عن أحوال الآخرة من سعادة أو شقاوة فكان أعظم محبوباتهم بقاء أجسادهم وتكميلها، وأعظم منفور عنه لهم نقصانها وموتها.
أما المتقون فهم وإن كانوا يرونهم بتلك الحال إلا أنهم يرون أفضل مما يرون، وهو أن موت قلوبهم وفقدانها للحياة بالعلم والحكمة أعظم من موت أجسادهم، وذلك لعلمهم بفساد الحياة البدنية وانقطاعها وكدرها بعوارض الأمراض وسائر المغضبات الدنيوية، وبقاء الحياة النفسانية وشرف كمالها وصفاء لذاتها عن الأقدار والأكدار. وإنما قال: قلوب أحيائهم، ولم يقل: قلوبهم؛ لأن موت القلوب قد يكون حقيقة بموت الأجساد، وقد يكون مجازاً وهو موتها بفقدان العلم ونور الحكمة مع حياة أجسادها فكان ذكر الأحياء كالقرينة المعينة لمراده بذلك الموت مجازاً، والضمير في قوله: أحيائهم يعود إلى أهل الدنيا؛ لأن موت القلوب هو الواقع بهم حال حياة أبدانهم. ويحتمل عوده إلى قوله: «وهم» الذي هو ضمير المتقين. وبالله التوفيق([4]))([5]).
الهوامش:
([1]) نهج البلاغة لصبحي صالح: ٣٥٢ - ٣٥٣ / ضمن الخطبة رقم ٢٣٠، ونهج الشيخ العطار: ٤٦٩/ ضمن الخطبة رقم ۲۲۹ وشرح نهج البلاغة لابن ميتم ١٠٧:٤/ ضمن الخطبة رقم ۲۲۱، وتهج محمد عبده ١: ٤٨٨
([2]) شرح الألفاظ الغربية: ٦٧٢، وشرح الألفاظ الغربية في شرح نهج ابن ميثم ٤: ١٠٧.
([3]) غافر: 39.
([4]) شرح نهج البلاغة لابن میثم ٤: ۱۰۸ - ۱۰۹ ضمن شرح الخطبة رقم ٢٢١.
([5]) لمزيد من الاطلاع ينظر: الدنيا في نهج الإمام علي عليه السلام: السيد عبد الحسين الغريفي، ط: مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة: ص 275-278.