القرآن... لسان الحسين في كربلاء

مقالات وبحوث

القرآن... لسان الحسين في كربلاء

6K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 19-10-2019

عمَّار حسن الخزاعي:
الحمد لله ربِّ العالمين حمدًا كثيرًا كما يستحقُّه وكما هو أهله، والصلاة والسلام على خير خلقه محمَّد وآله الطاهرين...
يمتلك القرآن الكريم قدسيَّةً عظمى في نفوس المسلمين على اختلاف توجهاتهم الفكرية ومناهلهم المعرفيَّة، وعندما تُقرأ آياته على ملأٍ ما تجد الأسماع تخشع خاضعةً لتراتيل آياته، وكيف لا يكون كذلك وهو كلام الإله العظيم الذي أنزله على روح الأمين؛ ليكون آيات هدايةٍ وسبيل نجاةٍ من الغيِّ إلى الرشاد، ومن هنا صار المتكلمون يحاولون جاهدين إلى استحضار آيات القرآن في كلامهم بمقاصد شتَّى، منها: مقاصد جماليَّة يبتغي فيها المتكلِّم من استحضار آياتِ الذكر الحكيم رفع قيمة كلامه وإضاءة محتواه بنور الذكر المبين، فيسعى إلى تنميق كلامه وتزويقه برونق القرآن وحلاوته، ومنها مقاصد حجاجيَّة يبتغي من ورائها المتكلم إقناع خصومه بأحقيَّةِ مدَّعاه ومطلبه، وكلَّما استنجد المتكلِّم بالآيات القرآنية وأحسن في توظيفها كان كلامه أشدَّ وطأةٍ وأكثر تأثيرًا .
وبعد هذه المقدِّمة الوجيزة نريد أن نسير بوجهةِ الحديث إلى صوب الحسين بن علي (عليه السلام) فنستحضر كلامه في يوم عاشوراء؛ لنرى مديات حضور القرآن الكريم في كلامه في ذلك اليوم العصيب، وعندما نتفحَّص حديثه الذي نقلته كتب التأريخ نجده مليئًا بالآيات القرآنيَّة، وكأنَّه لا يتكلَّم إلَّا قرآنًا أو لا يريدُ الحديث إلَّا بالقرآن الكريم، فهو كان دائم الاستحضار للذكر الحكيم في كلِّ معتركات معركة الطف، وسنعمل على استحضار بعضٍ من تلك المواضع التي كان للقرآن الكريم فيها سطوةً في كلام الإمام الحسين (عليه السلام)، ومن تلك المواضع ما قاله لجيش بني أميَّة: ((أَيُّهَا النَّاسُ، اسمعوا قولي، وَلا تعجلوني حَتَّى أعظكم بِمَا لحق لكم علي، وحتى أعتذر إليكم من مقدمي عَلَيْكُمْ، فإن قبلتم عذري، وصدقتم قولي، وأعطيتموني النصف، كنتم بِذَلِكَ أسعد، ولم يكن لكم علي سبيل، وإن لم تقبلوا مني العذر، ولم تعطوا النصف من أنفسكم ﴿فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ﴾ [يونس: 71]، ﴿إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ﴾ [الأعراف: 196]))([1])، وقوله (عليه السلام) لجيش بني أميَّة أيضًا: ((لا وَاللَّهِ لا أعطيهم بيدي إعطاء الذليل، وَلا أقر إقرار العبيد عباد اللَّه، ﴿إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ﴾ [غافر: 27]))([2])، وممَّا حاجج الإمام الحسين (عليه السلام) به جيش الغادرين من عبيد بني أميَّة: ((وإن لم تقبلوا منِّي العذر، ولم تعطوا النصف من أنفسكم ﴿فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ﴾ [يونس: 71]، ﴿إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ﴾ [الأعراف: 196]))([3])، وعندما صُرع مسلم بن عوسجة الأسدي ذهب إليه الإمام الحسين (عليه السلام) وقال عنده: ((رحمك ربك يَا مسلم بن عوسجة، ﴿فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾ [الأحزاب: 23]))([4]).
وتستمر قضيَّة الاستشهاد بالقرآن الكريم بعد مقتل الحسين (عليه السلام) مع ولده السَّجاد (عليه السلام)، وذلك بعدما انتهت معركة الطف وأُخذت عائلة الحسين (عليه السلام) أسارى وسبايا لابن زياد (لعنه الله)، وهناك ((عُرض عَلَيْهِ عَلِيّ بن الْحُسَيْن فَقَالَ لَهُ: مَا اسمك؟ قَالَ: أنا عَلِيّ بن الْحُسَيْن، قال: أو لم يقتل اللَّه عَلِيّ بن الْحُسَيْن! فسكت، فَقَالَ لَهُ ابن زياد: مَا لك لا تتكلم! قَالَ: قَدْ كَانَ لي أخ يقال لَهُ أَيْضًا علي، فقتله الناس، قَالَ: إن اللَّه قَدْ قتله، قَالَ: فسكت علي، فَقَالَ لَهُ: مَا لك لا تتكلم! قَالَ: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا﴾ [الزمر: 42] ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ [آل عمران: 145]))([5]) . وفي مجلس يزيد بن معاوية (لعنه الله) في الشام قال يزيد لعلي بن الحسين (عليه السلام) ((يَا علي، أبوك الَّذِي قطع رحمي، وجهل حقي، ونازعني سلطاني، فصنع اللَّه بِهِ مَا قَدْ رأيت! قَالَ: فَقَالَ علي: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا﴾))([6]) .
وهكذا كان الحسين (عليه السلام) لسانه القرآن في يوم عاشوراء، فلا يكاد يتكلَّم إلَّا ويستشهد بآيةٍ أو آيتين من الذكر الحكيم، ثمَّ تبعه ولده علي السجاد (عليه السلام) فكان القرآن لسانه أمام الطاغية عبيد الله بن زياد، وكذلك أمام الدَّعي يزيد بن معاوية، وهذا الاستحضار للقرآن الكريم يمكن أن نجد له مقاصد كثيرة، منها: أنَّ الحسين (عليه السلام) أراد أن يبرهن للقوم أنَّه على الحقِّ وأنَّه قرآنٌ ناطقٌ، وكذلك أراد من الاستشهاد بالقرآن الكريم أن يحمِّل كلامه طاقاتٍ قدسيَّةٍ عالية المضامين؛ ليكون أكثر تأثيرًا وإقناعًا في نفوس المتلقين، ومنها أيضًا أنَّ الحسين (عليه السلام) أراد أن ينفي الشبهة التي أوهموا بها العوام من أنَّ الحسين (عليه السلام) خارجي خرج على إمام زمانه، فكان يردُّ هذه الشبهة عمليًا عن طريق تمثُّل القرآن الكريم قولاً وفعلًا، وقد أتت هذه الخطوة من الحسين (عليه السلام) أُكلها فأثَّر في جمعٍ كثير من جيش العدو حتَّى لحق به ما يربو على ثلاثين فارسًا من جيش بني أميَّة وأبرزهم الحر بن يزيد الرياحي . جعلنا الله تعالى وإيَّاكم من خير المتمسكين بالحسين (عليه السلام) وبمنهجه .
الهوامش:
([1]) تاريخ الطبري - تاريخ الرسل والملوك: 5/424 ، الكامل في التاريخ:4/61 .
([2]) تاريخ الطبري - تاريخ الرسل والملوك: 5/425 – 426 ، نهاية الأرب في فنون الأدب: 20/442 .
([3]) مقتل الحسين (عليه السلام)، أبو مخنف الأزدي: 116 – 117 ، تاريخ الطبري - تاريخ الرسل والملوك: 5/424 .
([4]) مقتل الحسين (عليه السلام)، أبو مخنف الأزدي: 137 ، تاريخ الطبري - تاريخ الرسل والملوك: 5/435 .
([5]) تاريخ الطبري - تاريخ الرسل والملوك: 3/157 ، شرح الأخبار، القاضي النعمان المغربي: 3/157 .
([6]) الإرشاد، الشيخ المفيد: 2/120 .

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.2786 Seconds