الباحث: علي عباس فاضل
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه مُحَمَّد بن عبد الله وآله الأطهار، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرًا...
أمَّا بعد...
ساد العدل الإلهي في حكومة الإمام علي (عليه السلام) مثلما كان على زمن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فعاش الناس في ظل حكومة ترعى مصالحهم، وتحافظ على ممتلكاتهم، وأموالهم، وتصون كرامتهم، فانشر العدل في أرجاء الدولة حتى صار الحاكم والمحكوم بمنزلة سواء، وهذا تطبيق لقوله (صلى الله عليه وآله) (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)([1]).
ونجد هذا ماثلا في حادثة وقعت في خلافة أمير المؤمنين (عليه السلام) نقلتها السيدة سودة بنت عمارة الهمذانية لمعاوية حين دخلت عليه مجلسه تطالبه بحقها وحق قومها، الذين سلبوا أموالهم، وقد كانت هذه السيدة من محبي أمير المؤمنين (عليه السلام) ودعت أخوها لنصرته في صفين في مقاتلة معاوية وأهل الشام، وأنشدك في ذلك شعرًا، ذكرها معاوية به إذ قال لها: (إيه يا بنت لاسك! ألست القائلة يوم صفين عند ملتقى عك وهمدان هذه الأبيات :
شمر لقتل أخيك يا بن عمارة يوم الطعان وملتقى الأقران
وانصر عليا والحسين وصنوه واقصد بهند وابنها بهوان
إن الإمام أخو النبي محمد علم الهداة وعصمة الإيمان
فخف الحتوف وسر أمام لوائه قدما بأبيض صارم وسنان
قال : فقالت سودة: بلى يا معاوية! أنا قائلة هذه الأبيات، وما مثلي من اعتمد غير الحق ولا اعتذر بالكذب، فقال معاوية: وما حملك على ذلك؟ فقالت: حب علي بن أبي طالب واتباع الحق، فقال: والله ما أرى عليك من علي أثرا، فقالت سودة: بلى والله يا معاوية! فقال لها: وما هو؟ فقالت: إن ثوابي عند الله أعظم، فأنشدك الله أن لا تعيد ما مضى ولا تذكر ما قد نسي، فقال معاوية: هيهات يا سودة! ما مثل مقام أخيك في يوم صفين ينسى، وما لقيت من أحد من العرب مثل ما لقيت من قومك)([2]).
وبعد هذه المحاورة التي تدل على قوة هذه المرأة وإيمانها، وعلى ضعف معاوية وظلمه، ثم شكت لمعاوية ما يفعله بسر ابن ارطأة بهم من قتل لرجالهم وسلب أموالهم، وتهدد معاوبة إن لم يكف يد هذا الرجل فإنها وقومها سيقاتلون دفاعا عن أنفسهم وأموالهم([3])، (فقال معاوية : إياي تهددين يا سودة ! لقد هممت أن أحملك على قتب أشرس فأردك إليه فينفذ فيك حكمه، قال: فأطرقت سودة إلى الأرض ساعة ثم رفعت رأسها وأنشأت تقول :
صلى الإله على روح تضمنها قبر فأصبح فيه العدل مدفونا
قد حالف الحق لا يبغي بدلا فصار بالحق والإيمان مقرونا
فقال معاوية: ومن هذا يا سودة؟ فقالت: والله أمير المؤمنين علي بن أبي طالب)([4]).
ثم تذكر هذه السيدة الحادثة التي حدثت معها في خلافة أمير المؤمنين (عليه السلام) فتقول: (والله لقد جئته – أمير المؤمنين- في رجل قد كان ولاه صداقتنا فجار علينا ، فجئت إليه فأصبته قائما يصلي، فلما رآني انفتل من صلاته ثم أقبل علي برأفة وتعطف فقال: ألك حاجة ؟ فقلت نعم - وأخبرته الخبر، فبكى ثم قال: اللهم ! أنت الشاهد علي وعليهم، إني لا آمرهم بظلم خلقك ولا بترك حقك ، ثم أخرج من جيبه قطعة جلد كأنها طرف الجراب فكتب فيها : بسم الله الرحمن الرحيم ، (قد جاءتكم بينة من ربكم * فأوفوا الكيل والميزان * ولا تبخسوا الناس أشياءهم)([5]) (ولا تعثوا في الأرض مفسدين * بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ)([6]) ، فإذا قرأت كتابي هذا فاحفظ بما فيه وبما في يديك من عملنا حتى يقدم عليك من يقبضه منك - والسلام - . ثم دفع الرقعة إلي ، فوالله ما ختمها بطين ولا حزمها بسحاءة ، فجئت بالرقعة إلى صاحبه، فانصرف عنا معزولا)([7]).
هكذا كان أمير المؤمنين (عليه السلام) مع الرعية، فقد زرع فيهم الثقة والإيمان والإخلاص ونصرة الحق، والدفاع عنه، ومحاربة الفساد والظالمين مهما كان حالهم ومنصبهم، فهذه المرأة شكت إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) أحد مسؤولي الدولة عندما رأت منه ظلمًا اتجاه الرعية، فما كان من الخليفة إلا أن عزله مباشرة واستدعاه للتحقيق معه، حتى يكون عبرة لغيرة من الولاة وأن لا تسول نفس أحد منهم ظلم الرعية، وكذلك فيه حث وتشجيع للناس على مراقبة المسؤولين وأعمالهم، فإن رأوا منهم ظلما فعليهم أن يرفعوا فيهم شكوى إلى الخليفة، ليتخذ الإجراء المناسب بحقهم.
وختاما: نسأل الله العلي القدير أن يمن علينا بدولة كريمة يعز بها الإسلام وأهله، ويخذل بها النفاق وأهله، إنه سميع مجيب.
الهوامش:
([1]) مسند أحمد بن حنبل: 9/ 156.
([2])الفتوح، ابن أعثم الكوفي: 59.
([3])ينظر: الفتوح، ابن أعثم الكوفي: 60.
([4]) الفتوح، ابن أعثم الكوفي: 61.
([5]) سورة الأعراف: 85.
([6]) سورة هود: 85- 86.
([7]) الفتوح، ابن أعثم الكوفي: 59- 61.