القواعد الجوهرية لسلامة الحاكم من الفساد في كلام أمير المؤمنين (عليه السلام).
الباحث: علي فاضل الخزاعي
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين أبي القاسم محمد وآله الطيبين الطاهرين، وبعد:
أتخذ أمير المؤمنين (عليه السلام) خطوات ترسم الطَّريق الصحيح لسلامة الحاكم من الفساد ولأجل التنفيذ والتطبيق، وتنظيم الحياة الاجتماعيّة وفقها، فالقانون مهما كان راقياً وصالحاً ليس بكاف وحده في إصلاح المجتمع وإصلاح شؤونه، بل لا بدّ من إجرائه، وتنفيذه في الصعيد العمليّ، قال تعالى (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)[1]
فالحاكم مهمته الرئيسة حفظ كيان الناس وتدبير أمورهم واصلاح شؤونهم على أساس ضوابط الاسلام ومقرراته، فهو المكلف بإصلاح الملك والمسؤول عن فساده.
وعندما تتسع مساحة ملكه والاحتياجات والتكاليف المتوجهة اليه لابد من أن يكون له مشاورون وأيادي وعمال في شتى الدوائر المختلفة، لكي يفوض لكل شخص العمل المناط إليه ويكون المسؤول متابعا له ومشرفا على عمله.
روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: (لابد للأمة من إمام يقوم بأمرهم، فيأمرهم وينهاهم ويقيم فيهم الحدود ويجاهد فيهم العدو ويقسم الغنائم ويفرض الفرائض ويعرفهم أبواب ما فيه صلاحهم ويحذرهم ما فيه مضارهم إذا كان الأمر والنهي أحد أسباب بقاء الخلق وإلاّ سقطت الرّغبة والرّهبة، ولم يرتدع ويفسد التدبير وكان ذلك سببًاً لهلاك العباد...)[2].
وفي خبر سليم عنه (عليه السلام): (يختاروا لأنفسهم امامًا عفيفًا عالمًا ورعًا عارفًا بالقضاء والسنة، يجمع أمرهم ويحكم بينهم، ويأخذ للمظلوم من الظالم حقه، ويحفظ أطرافهم ويجبي فيئهم ويقيم حجتهم ويجبي صدقاتهم)[3].
فلا يكفي في إدارة الدولة أن تقوم بتعيين الوزراء والعمال والأمراء للمناصب الإدارية وإدارة مسؤوليات الوزارات الأخرى ويجلس الحاكم المسؤول من دون مراقبة، فلا بد من أن يقوم بين فترة وأخرى، بمراقبتهم وجعل العيون ترصد أعمالهم ومعاملاتهم مع المراجعين في شتي المؤسسات، ولاسيما في المناطق البعيدة عن مقر الحكومة المركزية، كما كان يصنعه رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين (عليه السلام): ففي كتاب أمير المؤمنين (عليه السلام) لمالك حين ولاه مصر بعد ذكر العمال وانتخابهم قال: (ثُمَّ تَفَقَّدْ أَعْمَالَهُمْ، وَابْعَثِ الْعُيُونَ مِنْ أَهْلِ الصِّدْقِ وَالوَفَاءِ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ تَعَاهُدَكَ فِي السِّرِّ لأمُورِهِمْ حَدْوَةٌ لَهُمْ عَلَى اسْتِعْمَالِ الأمَانَةِ، وَالرِّفْقِ بِالرَّعِيَّةِ.
وَتَحَفَّظْ مِنَ الأعْوَانِ، فَإِنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بَسَطَ يَدَهُ إِلَى خِيَانَة اجْتَمَعَتْ بِهَا عَلَيْهِ عِنْدَكَ أَخْبَارُ عُيُونِكَ، اكْتَفَيْتَ بِذلِكَ شَاهِداً، فَبَسَطْتَ عَلَيْهِ الْعُقُوبَةَ فِي بَدَنِهِ، وَأَخَذْتَهُ بِمَا أَصَابَ مِنْ عَمَلِهِ، ثُمَّ نَصَبْتَهُ بِمَقَامِ الْمَذَلَّةِ، وَوَسَمْتَهُ بِالْخِيانَةِ، وَقَلَّدْتَهُ عَارَ التُّهَمَةِ)[4].
وأهم شريحة في المجتمع يجب على الحاكم والمسؤولين تركيز الاهتمام الواسع والعناية بهم وتوفير كل الاحتياجات اللازمة لهم هم: ذوي الاحتياجات الخاصة، إذ لابدّ للحاكم من التّواضع معهم، كونهم طبقة ضعيفة في المجتمع تحتاج إلى من يقف معهم ويساندهم في حياتهم، وتوفير ما يستحقونه من الأمور التي تساعدهم على رفع معنوياتهم.
فعنه (عليه السَّلَام) في عهده لمالك: (وَاجْعلْ لِذَوِي الْحَاجَاتِ مِنْكَ قِسْماً تُفَرِّغُ لَهُمْ فِيهِ شَخْصَكَ، وَتَجْلِسُ لَهُمْ مَجْلِساً عَامّاً، فَتَتَواضَعُ فِيهِ لله الَّذِي خَلَقَكَ، وَتُقعِدُ عَنْهُمْ جُنْدَكَ وَأَعْوَانَكَ مِنْ أَحْرَاسِكَ وَشُرَطِكَ، حَتَّى يُكَلِّمَكَ مُتَكَلِّمُهُمْ غَيْرَ مُتَعْتِع، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ(عليه السلام)يَقُولُ فِي غَيْرِ مَوْطِن: "لَنْ تُقَدَّسَ أُمَّةٌ لاَ يُؤْخَذُ لِلضَّعِيفِ فِيهَا حَقُّهُ مِنَ الْقَوِيِّ غَيْرَ مُتَعْتِع". ثُمَّ احْتَمِلِ الْخُرْقَ مِنْهُمْ وَالْعِيَّ، وَنَحِّ عَنْكَ الضِّيقَ وَالاأَنَفَ، يَبْسُطِ اللهُ عَلَيْكَ بَذلِكَ أَكْنَافَ رَحْمَتِهِ، وَيُوجِبُ لَكَ ثَوَابَ طَاعَتِهِ، وَأَعْطِ مَا أَعْطَيْتَ هَنِيئاً، وَامْنَعْ فِي إِجْمَال وَإِعْذَار!
ثُمَّ أُمُورٌ مِنْ أُمُورِكَ لاَ بُدَّ لَكَ مِنْ مُبَاشَرَتِهَا: مِنْهَا إِجَابَةُ عُمَّالِكَ بِمَا يَعْيَا عَنْهُ كُتَّابُكَ، وَمِنْهَا إِصْدَارُ حَاجَاتِ النَّاسِ عِنْدَ وَرُودِهَا عَلَيْكَ مِمَّا تَحْرَجُ بِهِ صُدُورُ أَعْوَانِكَ)[5].
فأي تقصير من الوزراء والمسؤولين على حماية الدولة تؤدي إلى زعزعة البلد وحدوث حالة من الخيانة والنكث بالقسم الذي أقسمه كل مسؤول في حماية الأمن والأمان للدولة؛ واذا نظرنا إلى حكومة أمير المؤمنين (عليه السلام) لرأينا بأنه اهتم بمراقبة العمال، إذ بعث العيون عليهم وأمر مالكًا بذلك، وكان أمير المؤمنين (عليه السلام) يراقب عماله بعيونه، ولعلّه يشعر بذلك، بل يدلّ عليه ما ورد في كتبه إلى عمّاله من بلوغ أخبارهم إليه مع بعد المسافة بين البلاد، إذ إن وسائل الإعلام والأخبار الموجودة في عصرنا لم تكن موجودة في ذلك الزمن، ومع ذلك كان يبلغه ما يقوم به عماله حتى ورده مشاركة أحدهم في مجلس ضيافة، فيظهر بذلك شدة عنايته بذلك و بعثه عيونًا ترصد أعمالهم و تخبره بها[6].
نأخذ بعضًا من نماذج ما ذكره أمير المؤمنين (عليه السَّلَام) الى الولاة والأمصار؛ منها ما جاء في كتابه إلى عثمان بن حنيف عامله على البصرة: (أَمَّا بَعْدُ، يَابْنَ حُنَيْف، فَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ رَجُلاً مِنْ فِتْيَةِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ دَعَاكَ إلى مَأْدُبَة، فَأَسْرَعْتَ إِلَيْهَا، تُسْتَطَابُ لَكَ الألْوَانُ، وَتُنْقَلُ إِلَيْكَ الْجِفَانُ، وَمَا ظَنَنْتُ أَنَّكَ تُجِيبُ إِلى طَعَامِ قَوْم، عَائِلُهُمْ مَجْفُوٌّ، وَغَنِيُّهُمْ مَدْعُوٌّ)[7].
وكذلك في كتابه الي ابن عباس على ما قيل: (أَمَّا بَعْدُ، فَقَدْ بَلَغَنِي عَنْكَ أَمْرٌ، إِنْ كُنْتَ فَعَلْتَهُ فَقَدْ أَسْخَطْتَ رَبَّكَ، وَعَصَيْتَ إِمَامَكَ، وَأَخْزَيْتَ أَمَانَتَكَ.
بَلَغَنِي أَنَّكَ جَرَّدْتَ الأرْضَ فأَخَذْتَ مَا تَحْتَ قَدَمَيْكَ، وَأَكَلْتَ مَا تَحْتَ يَدَيْكَ، فَارْفَعْ إِلَيَّ حِسَابَكَ، وَاعْلَمْ أَنَّ حِسَابَ اللهِ أَعْظَمُ مِنْ حِسَابِ النَّاسِ، وَالسَّلاَمُ)[8].
وغيرها كثير مما أورده أمير المؤمنين (عليه السلام) لبيان المسؤولية وصيانة الأمانة التي توكل بها كل مسؤول وعدم حصول أي ضياع في البلد يؤدي الى خرابه، ونشر التدهور، فلابد من أن يكون المسؤول والحاكم مراقبا لكل صغيرة وكبيرة على ولاته الذين عينهم على ملك الدولة أو لمسؤولية الشعب تجاه بلدهم، إذ لابد أن يكونوا محافظين لكل شبر ولا يجعلوه مكشوفاً للآفات الخارجية تأكل وتجعل الخراب يعم البلاد.
فهذه القواعد لو تمسك بها وطبقها كل مسؤول أو فرد من الأمة لأمنوا على أنفسهم وأهليهم وأموالهم وأمان بلدهم من الضياع.
والحمد لله رب العالمين.
الهوامش:
[1] التوبة: 105.
[2] المحكم والمتشابه: 50؛ وفي بحار الانوار: 41/90 (طبعة إيران 41/93).
[3] كتاب سليم بن قيس 182/.
[4] نهج البلاغة، فيض 1011/; عبده 106/3; لح 435/، الكتاب 53.
[5] نهج البلاغة، فيض 1021/; عبده 112/3; لح 439/، الكتاب 53.
[6] ينظر: نظام الحكم في الإسلام، الشيخ المنتظري: 361.
[7] نهج البلاغة، تحقيق محمَّد عبده: 3/70
[8] المصدر نفسه: 3/ 64.