الباحث: علي عباس فاضل
الحمد لله ذي الفضل العظيم، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين أبي القاسم محمد وآله الطيبين الطاهرين، وبعد
خلق الله الناس ليكونوا خلفاء في الأرض قال جل وعلا : (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً)([1])، وجعلهم شعوبا متعددة، فيها قبائل تختلف في عاداتها وتقاليدها، ثم جعل الميزان الفارق في تفضيلهم التقوى قال تعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)([2])، فهذا التقسيم إنما هو ليتعارف الناس ويبنون فيما بينهم العلاقات الودية، والتراحم، والصلة بين ذوي القربى، وهذا الترابط بين الناس في القبيلة الواحدة يوفر لأبنائها أمورا كثيرة، منها الحماية، والمساعدة، وبناء شخصية الفرد، من خلال ما تعقده القبيلة من جلسات بين أفرادها.
ومهما بلغ الرجل من الوجاهة والمال، إلا أنه لا يستطيع أن يترك القبيلة، أو يستغني عنها، يقول أمير المؤمنين (عليه السلام) في هذا: (أَيُّهَا النّاسُ، إِنَّهُ لاَ يَسْتَغْنِي الرَّجُلُ ـ وَإِنْ كَانَ ذَا مَال ـ عَنْ عَشِيرَتِهِ، وَدِفَاعِهِمْ عَنْهُ بِأَيْدِيهِمْ وَأَلسِنَتِهمْ، وَهُمْ أَعْظَمُ النَّاسِ حَيْطَةً، مِنْ وَرَائِهِ وَأَلَمُّهُمْ لِشَعَثِهِ، وَأَعْطَفُهُمْ عَلَيْهِ عِنْدَ نَازِلَة إنْ نَزَلَتْ بِهِ. وَلِسَانُ الصِّدْقِ يَجْعَلُهُ اللهُ لِلْمَرْءِ في النَّاسِ خَيْرٌ لَهُ مِنَ المَالِ: يُورِثُهُ غيرَهُ. أَلاَ لا يَعْدِلَنَّ أَحَدُكُمْ عَنِ القَرَابِةِ يَرَى بِهَا الخَصَاصَةَ أنْ يَسُدَّهَا بِالَّذِي لا يَزِيدُهُ إِنْ أَمْسَكَهُ وَلاَ يَنْقُصُهُ إِنْ أَهْلَكَهُ، وَمَنْ يَقْبِضْ يَدَهُ عَنْ عَشِيرَتِهِ، فَإِنَّمَا تُقْبَضُ مِنْهُ عَنْهُمْ يَدٌ وَاحِدَةٌ، وَتُقْبَضُ مِنْهُمْ عَنْهُ أَيْد كَثِيرَةٌ; وَمَنْ تَلِنْ حَاشِيَتُهُ يَسْتَدِمْ مِنْ قَوْمِهِ المَوَدَّةَ)([3]).
فالمال وحده لا ينفع الرجل بل لا بد له من أناس يدافعون عنه، خصوصا أن أصحاب المال هم أكثر الناس عرضة للخطر، و (المال والثّروة لا يغني عن الإخوان والعشيرة بل أشدّ النّاس حاجة إلى الأعوان والأتباع هم أكثر النّاس ثروة وغفيرة، ألا ترى الملوك والمتشبّهين بهم من أرباب الأموال كم حاجتهم إلى الأصحاب والأعوان في الأعمال والأفعال وأحقّ النّاس بعدم الاستغناء عنه هم عشيرة الرّجل وأقرباءه (وهُمْ أَعْظَمُ النَّاسِ حَيْطَةً مِنْ وَرَائِه) وحفظا لجانبه (وأَلَمُّهُمْ لِشَعَثِه) وأجمعهم لمتفرّق أموره (وأَعْطَفُهُمْ عَلَيْه عِنْدَ نَازِلَةٍ) أو مصيبة (إِذَا نَزَلَتْ بِه) وذلك لجهة القرب الباعثة لدواعي الشّفقة عليه (ولِسَانُ الصِّدْقِ) والذكر الجميل المترتّب على البذل والانفاق (يَجْعَلُه اللَّه لِلْمَرْءِ فِي النَّاسِ) وبينهم (خَيْرٌ لَه مِنَ) جمع (الْمَالِ) وامساكه حتّى (يورّثه غيره))([4]).
وروي عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال: قال أمير المؤمنين: (لن يرغب المرء عن عشيرته و إن كان ذا مال و ولد عن مودّتهم وكرامتهم و دفاعهم بأيديهم وألسنتهم، هم أشدّ الناس حيطة من ورائه وأعطفهم عليه وألمّهم لشعثه ان أصابته مصيبة أو نزل به بعض مكاره الأمور، ومن يقبض يده عن عشيرته فإنّما يقبض عنهم يدا واحدة و يُقبض عنه منهم أيد كثيرة، ومن يلن حاشيته يعرف صديقه منه المودّة ومن بسط يده بالمعروف إذا وجده يخلف اللّه له ما أنفق في دنياه ويضاعف له في آخرته، ولسان الصدق للمرء يجعله اللّه في الناس خير من المال يأكله و يورّثه، ولا يزدادنّ أحدكم كبرا وعظما في نفسه ونأيا عن عشيرته إن كان موسرا في المال، ولا يزدادن أحدكم في أخيه زهدا ولا منه بعدا إذا لم ير منه مروّة و كان معوزا في المال، لا يغفل أحدكم عن القرابة بها الخصاصة أن يسدّها بما لا ينفعه إن أمسكه ولا يضرّه إن استهلكه)[5].
وختاما: للقبيلة دورها المحوري في بناء المجتمع، ذلك عبر التزامها بحدود الشرع الإلهي، وتطبيق النهج المحمدي في إدارة شؤونها، وتعليم أبنائها السير على خطى الحق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الهوامش:
([1]) سورة البقرة: 30.
([2]) سورة الحجرات: 13.
([3]) نهج البلاغة، تحقيق: صبحي الصالح:65.
([4]) منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، الخوئي: 3/ 629.
[5] - الكافي: 2/ 154.