بقلم: السيّد نبيل الحسنيّ.
في المورد الثالث من موارد تحديد صفات المستشار، ينتقل أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) إلى صفة أخرى، وهي النهي عن مشاورة الحريص، فيقول لمالك: «ولَا تُدْخِلَنَّ فِي مَشُورَتِكَ.... حَرِيصًا يُزَيِّنُ لَكَ الشَّرَه بِالْجَوْر».
وللإحاطة بدلالة النّص الشريف ومعرفة العلّة في النهي، فضلًا عن بيان تأثيره على النفس، فلا بُدّ من النقاط الآتية:
1- تحديد مفهوم الشرَهِ والحِرص وحقيقتهما.
ينتقل بنا النّص الشريف إلى بيانٍ جديد في موارد النهي عن مشاورة الذين يتصفون ببعض الصفات التي يلزم الحذَرَ منها؛ كصفة الحرص، والعِلّة في ذلك: أنّ الحريص من شأنه أنْ يُزَيِّن للإنسان الشرَهَ بالجور، ويظهر من كلام أهل اللغة أنّ الحرص والشرَهَ متداخلان في المعنى ممّا يلزم تحديد مفهومهما وحقيقتهما، وهي:
2- معنى الحرص في اللغة.
الحِرْصُ: شدّةُ الإِرادة والشَّرَه إِلى المطلوب.
وقال الجوهريّ: الحِرْصُ الجَشَعُ.
وقال الأَزهريّ: أَصلُ الحِرْصِ القَشْرُ، وبه سُمِّيت الشَّجّة حارِصةً، وقيل للشَّرِه: حَرِيصٌ؛ لأَنّه يَقْشِرُ بِحرْصِه وُجُوه الناس.
وهذا المعنى متداخل بين الحرص والشرَهِ، في حين أنّ النّص الشريف يجعل لكلٍّ منهما مفهومًا ومعنىً محدّدًا عبر آثار كلٍّ منهما على النفس وبيان حقيقتهما بذلك، كما سيمرُّ بيانه.
3- معنى الشَّرَه في اللغة.
الشَّرَه: أَسْوَأُ الحِرْصِ، وهو غلبة الحِرْصِ، شَره شَرَهًا فهو شَرِهٌ وشَرْهانُ.
ورجل شَرِهٌ: شَرْهانُ النفس حَريصٌ.
والشَّرِه والشَّرْهانُ: السريعُ الطَّعْمِ الوَحِيُّ، وإنْ كان قليلَ الطَّعْمِ.
ويقال: شَرِه فلانٌ إلى الطعام يَشْرَه شَرَهًا إذا اشْتَدَّ حِرْصُه عليه[1].
4- حقيقة الحرص والشَّرَه وتحديد آثارهما في كلام أمير المؤمنين (عليه السلام).
إنّ من خصوصيّات كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) هي إحاطة المفردات بحقائق المعنى وتحديد المفهوم، وهو ما سحر فصحاء العربيّة وأهل بيانها، ولعلّ تداخل المعنى والمفهوم بين الحرص والشَّرَه في بيانهم المعجميّ يفتح الباب أمام الباحثين إلى تخصيص عددٍ من الدراسات في الدلالة المعجميّة والمفهوميّة لكلام أمير المؤمنين (عليه السلام)، وفي مفردات جَمّة.
وإلّا لا يمكن التسليم والاكتفاء بما عرضته المعاجمُ العربيّة قديمًا وحديثًا في بيان معنى المفردات، وقد فرّق أمير المؤمنين بين آثار الحرص والشَّرَه على النفس الإنسانيّة في خطابه لمالك الأشتر، فينهاه عن مشاورة الحريص، والعِلّة فيه أنّه «يُزَيِّنُ الشَّرَه بِالْجَوْر».
فلو كانت حقيقة الحرص والشَّرَه واحدة أو متّحدة لمَا كانت العلة تكمن في حقيقة الحرص ونتائجه وآثاره على النفس وهو تزيُّن الشره بالجور، أي إنّ الحرص يدفع بالإنسان إلى الجور على الآخرين فإمّا بمنعه حقوقهم أو الاستحواذ عليها.
ومن أمثلته وآثاره ومصاديقه الخارجيّة، هو الاحتكار بغية الحصول على المال أو الاحتفاظ بالطعام أو حبس بيت المال، أو التقتير على الأهل والأسرة أو الناس، أو قبض الحاكم لمستحقّات العاملين ومنعها عنهم، وغيرها من المصاديق الخارجيّة التي اختلفت باختلاف المجالات الحياتيّة للإنسان والمجتمع ومؤسَّساته.
5- منشأ الشره في النفس عند علماء الأخلاق.
لقد نظر علماء الأخلاق في آثار الشره، وحدَّدوا منشأه، فوجدوا أنّه في «إطاعة شهوة البطن والفرج، وشِدّة الحرص على الأكل والجماع، وربّما فُسِّر باتباع القوة الشهويّة في كلِّ ما تدعو إليه: من شهوة البطن والفرج وحبِّ المال، وغير ذلك، ليكون أعمِّ من سائر رذائل قوة الشهوة»[2].
وبالجملة: رذيلة الشِّرَه من طرف الإفراط في القوة الشهويّة، ولا ريب في كونه أعظم المهلِكات لابن آدم؛ فكيف يأمن الإنسان من الضرر، بل من الهلاك في اتّباع ما يُشير به الحريص وهو كما وصفه أمير المؤمنين (عليه السلام) بتزيينه الشَّرَه بالجور كي يُرضِي بطنه وفرجه [3].
الهوامش:
[1] لسان العرب، ابن منظور، مادة (شره): ج13 ص506
[2] جامع السعادات، النراقيّ: ج2 ص3
[3] لمزيدٍ من الاطلاع، ينظر: فقه صناعة الإنسان ، الأوامر والنواهي في عهد الإمام عليّ (عليه السلام) لمالك الأشتر(رحمه الله) ، دراسة في ضوء أصول الفقه والأخلاق ، السيّد نبيل الحسنيّ، ص239- 241/ مع بعض الإضافة، إصدار: مؤسَّسة علوم نهج البلاغة - العتبة الحسينيّة المقدَسة ، ط 1، دار الوارث كربلاء المقدسة 2023م