عمَّار حسن الخزاعي:
الحمد لله ربِّ العالمين حمدًا كثيرًا كما يستحقُّه وكما هو أهله، والصلاة والسلام على خير خلقه محمَّد وآله الطاهرين
الابتلاء، سمة لا تفارق الحياة الدُّنيا، فهو معها دائم يدور ما دامت ودارت، وقد قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في صفتها: ((دَارٌ بِالْبَلاَءِ مَحْفُوفَةٌ، وَبِالْغَدْرِ مَعْرُوفَةٌ، لاَ تَدُومُ أَحْوَالُهَا، وَلاَ يَسْلَمُ نُزَّالُهَا))([1])، والابتلاء، امتحان يختبر الله تعالى به عباده، وسوط يؤدِّب به الخالق كلَّ من يتمرَّد على أوامره، وعبرةٌ يتذكَّرُ فيها الإنسان قدرة الله تعالى على هلاك الجبابرة والظالمين . والابتلاء على الرغم ممَّا يُخلِّف من آهاتٍ وحسرات إلَّا أنَّه لا يخلوا من منافع ينتفع بها المؤمنون، وينتكسُ فيها المجرمون، فالبلاء مدرسة التكامل الأولى، يختبرُ الله تعالى به أولياءه، ويمتحن به المقربين إليه والعلماء بآياته، فيثبت منهم أولي الركن العتيد، ويهلك منهم من كان في قلبه مرض أو إيمانٍ غير رشيد، كإبليس الذي كان أحد الذين قرَّبهم الله تعالى إليه ثمَّ ابتلاه بالسجود لآدم (عليه السلام) فتمرَّد وغوى فطرده الله تعالى من رحمته، وبلعم بن باعورا الذي آتاه الله تعالى من العلم بآياته ما مكَّنه من التقرُّب إليه حتَّى بلغ منزلةً عظيمةً عنده تعالى، ولكنَّه عندما أُبتلي انسلخ من علمه وغوى طغيانًا مع الشيطان الرجيم، وقد ذكره الله تعالى بقوله: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ﴾ [الاعراف: 175] .
ومن هنا فإنَّ البلاء مفهوم تتعدَّد غاياته ما بين الاختبار والعقوبة والتأديب والهداية والتكامل والعبرة وغيرها، وهذه الغايات تتداخل فيما بينها في كثيرٍ من الأحيان، وسنحاول في هذه العجالة بيان بعض الغايات المرجوَّةِ من البلاء وسبل التعامل معه في كتاب نهج البلاغة، وأوَّل هذه الغايات التكامل العبادي، الذي يكون معه الإنسان عبدًا خالصًا لله تعالى، وفي هذا المعنى يقول أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في بيان سبب فقر الأنبياء وقلة حيلتهم مع جبابرة قومهم: ((وَلَوْ أَرَادَ اللهُ سُبْحَانَهُ بأَنْبِيَائِهِ حَيْثُ بَعَثَهُمْ أَنْ يَفْتَحَ لَهُمْ كُنُوزَ الْذِّهْبَانِ، وَمَعَادِنَ الْعِقْيَانِ، وَمَغَارِسَ الْجِنَانِ، وَأَنْ يَحْشُرَ مَعَهُمْ طَيْرَ السَّماءِ وَوُحُوشَ الأرَضِينَ لَفَعَلَ، وَلَوْ فَعَلَ لَسَقَطَ الْبَلاَءُ، وَبَطَلَ الْجَزَاءُ))([2]) . فالأنبياء لو كانوا أولي بأسٍ وقوَّةٍ قاهرةٍ جيوش عاتيةٍ؛ لآمن بهم الجميع ولم يُعرف سليم الإيمان من سقيمه ولتساوى الجميع، وعند ذلك يبطل الجزاء، وتسقط الدرجات، ولا يمكن تمييز المتكاملين في طاعة الله تعالى المخلصين له في العبادة؛ لعدم وجود الاختبار الناتج عن البلاء . وأمَّا ثاني غايات البلاء فهي أخذ العبرة من حال الماضين الذين حلَّ بهم البلاء، وكيف تميَّز المؤمنون، ولمن كانت عاقبة البلاء الحُسنى، وفيمن كانت الضربة القصوى، وفي هذا المعنى يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): ((وَتَدَبَّرُوا أَحْوَالَ الْمَاضِينَ مِنَ الْمُؤمِنِينَ قَبْلَكُمْ، كَيْفَ كَانُوا فِي حَالِ التـَّمحِيصِ وَالْبَلاَءِ؟ أَلَمْ يَكُونُوا أَثْقَلَ الْخَلاَئِقِ أَعْبَاءً، وَأَجْهَدَ الْعِبَادِ بَلاَءً، وَأَضْيَقَ أَهْلِ الدُّنْيَا حَالاً؟! اتَّخَذَتْهُمُ الْفَراعِنَةُ عَبِيداً فَسَامُوهُم سُوءَ الْعَذَابِ، وَجَرَّعُوهُمُ الْمُرَارَ، فَلَمْ تَبْرَحِ الْحَالُ بِهِمْ فِي ذُلِّ الْهَلَكَةِ وَقَهْرِ الْغَلَبَةِ، لاَ يَجِدُونَ حِيلَةً فِي امْتِنَاع، وَلاَ سَبِيلاً إِلَى دِفَاع، حَتَّى إِذَا رَأَى اللهُ جِدَّ الصَّبْرِ مِنْهُمْ عَلَى الأذَى فِي مَحَبَّتِهِ، وَالاحْتِمالَ لِلْمَكْرُوهِ مِنْ خَوْفِهِ، جَعَلَ لَهُمْ مِنْ مَضَايِقِ الْبَلاَءِ فَرَجاً، فَأَبْدَلَهُمُ الْعِزَّ مَكَانَ الذُّلِّ، وَالأمْنَ مَكَانَ الْخَوْفِ، فَصَارُوا مُلُوكاً حُكَّاماً، وأَئِمَّةً أَعْلاَماً، وَبَلَغَتِ الْكَرَامَةُ مِنَ اللهِ لَهُمْ مَا لَمْ تَذْهَبِ الآمَالُ إِلَيْهِ بِهِمْ))([3]) . فأمير المؤمنين (عليه السلام) يضرب بحال الماضين مثلاً للعبرة منها، فيستذكر حالهم مع جبابرة عصرهم وكيف كانوا في أشدِّ ضروب البلاء والاختبار من العذاب والذُل والقهر بحيث لا يجدون ما يمتنعون به، ولمَّا نجحوا في الصبر والتمسُّك بالله تعالى غيَّر سوء حالهم بحسن الحال، وتحوَّلوا من مستضعفين إلى ملوكٍ وحكَّام تهابهم الجبابرة، وأعطاهم الله من الكرامة ما لم يكونوا يأملون .
ومن غايات البلاء أيضًا العقوبة للمتجبِّرين الذي يحاربون الله تعالى وأولياءه، وفي هذا المعنى يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): ((أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ اللهَ سُبْحانَهُ لَمْ يَقْصِمْ جَبَّارِي دَهْر قَطُّ إِلاّ بَعْدَ تَمْهِيل وَرَخَاء، وَلَمْ يَجْبُرْ عَظْمَ أَحَد مِنَ الأمَمِ إِلاَّ بَعْدَ أَزْل وَبَلاَء، وَفِي دُونِ مَا اسْتَقْبَلْتُمْ مِنْ خَطْب وَاسْتَدْبَرْتُمْ مِنْ خَطْب مُعْتَبَرٌ))([4]) . فالله تعالى قصم ظهر الجبَّارين بعد ما أمهلهم وابتلاهم بالرخاء، ولمَّا لم يشكروه ويطيعوه عاقبهم بالابتلاء أيضًا فجعل عاقبتهم الخسران المبين، وفي ذلك عبرة للمؤمنين، وكذا الحال ما يمرُّ به المسلمون من ابتلاءاتٍ بتسلُّط الأعداء عليهم، فهي عقوباتٍ على ما بدر منهم من تقصيرٍ مع الله تعالى، فكان علاجهم الابتلاء ليعودوا إلى الله تعالى .
ومن غايات البلاء الأخرى الوعظ والإرشاد، يقول أمير المؤمنين (عليه السلام) في هذا المعنى: ((وَمَنْ لَمْ يَنْفَعْهُ اللهُ بِالْبَلاَءِ وَالتَّجَارِبِ لَمْ يَنْتَفِعْ بِشَيْء مِنَ الْعِظَةِ))([5])، فالبلاء لا يخلوا من منفعة الوعظ والإرشاد، ومن لا يتَّعظ بالبلاء فإنَّه من الصَّعب أن يتَّعظ بشيء آخر غيره، وبهذا يكون البلاء أعلى وسائل الوعظ وأشدَّها .
أمَّا كيفية التعامل مع البلاء فيكون عن طريق عدَّة وسائل منها: حمد الله وشكره على كلِّ شيء آتٍ منه سواء أكان الخطب الجليل أم كان الخير الكثير، وفي هذا يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): ((الْحَمْدُ للهِ وَإنْ أَتَى الدَّهْرُ بِالْخَطْبِ الْفَادِحِ، وَالْحَدَثِ الْجَلِيلِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاّ اللهُ، لَيْسَ مَعَهُ إِلهٌ غَيْرُهُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ "صلى الله عليه وآله"))([6]) . ثمَّ الصبر على البلاء وعدم الضجر منه أو القنوط من الفرج؛ لأنَّه حتمًا ستكون العاقبة للمتَّقين، وفي هذا المعنى يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): ((وَحَتَّى يَكُونَ أَعْظَمَكُمْ فِيهَا غَناءً أَحْسَنُكُمْ بِاللهِ ظَنّاً، فَإِنْ أَتَاكُمُ اللهُ بِعَافِيَة فَاقْبَلُوا، وَإِنِ ابْتُلِيتُمْ فَاصْبِرُوا، فَإِنَّ الْعَاقِبَة لَلْمُتَّقِينَ))([7])، وفي نصٍّ آخر يقول (عليه السلام): ((وَاصْبِروُا عَلَى الْبَلاءِ))([8])، وعلينا أن نكون في أيَّام البلاء بالأمل بالله تعالى كأنَّنا في الرخاء بحيث لا نجزع ولا نقنت من رحمة الله تعالى، والحال عينها لو كنَّا في أيَّام الرَّخاء فعلينا أن نكون على خوفٍ وحذر من نقمة الله تعالى فلا نبطر ولا نتجبَّر، وهذا حال المتَّقين الذين وصفهم أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله: ((نَزَلَتْ أَنْفُسُهُمْ مِنْهُمْ فِي الْبَلاَءِ كَالَّتِي نَزَلَتْ فِي الرَّخَاءِ))([9]) . أمَّا وقت الفرج من البلاء فيكون عند اشتداد الأمر، وعندما يبلغ درجته القصوى، وهنالك ينبلج عمود الفجر صادحًا بالبشارة لمن صبر وكان أمله بالله تعالى كبيرًا، ولمن كان مع الله تعالى ملتزمًا بأوامره واقفًا عند نواهيه، لم يضجر أو يتململ، أو يضعف في ذات الله تعالى، وهذا القصد أشار إليه أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله: ((عِنْدَ تَنَاهِي الشِّدَّةِ تَكُونُ الْفَرْجَةُ، وَعِنْدَ تَضَايُقِ حَلَقِ الْبَلاَءِ يَكُونُ الرَّخَاءُ))([10]) . ولذلك يوصينا أمير المؤمنين (عليه السلام) بأن لا نستطيل أيَّام البلاء بقوله: ((وَضَاقَتِ الدُّنْيَا عَلَيْكُمْ ضِيقاً، تَسْتَطِيلُونَ أَيَّامَ الْبَلاَءِ عَلَيْكُمْ، حَتَّى يَفْتَحَ اللهُ لِبَقِيَّةِ الأبْرَارِ مِنْكُمْ))([11])، لأنَّ الفتح سيكون للأبرار الصابرين على ما أتاهم الله تعالى من نعمه وبلائه سوى الجازعين القانطين، أمَّا كيفيَّة الفرج من البلاء فتكون بالدعاء فإنَّه السلاح الذي يواجه المؤمنون به أمواج البلاء المتلاطمة، وفي ذلك يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): ((ادْفَعُوا أَمْواجَ الْبَلاَءِ بِالدُّعَاءِ))([12]) .
وإلى هنا يتَّضح للقارئ الكريم أنَّ البلاء لا يخلو من منفعةٍ للمؤمنين على كافَّة غاياته وسبله، فهو إن كان فيه هلاك للجبابرة كان ذلك في منفعة الإيمان وأهله، وإن كان اختبارًا كان النفع للمؤمنين يتكاملون فيه بطاعة الله تعالى، وإن كان عقوبة وإنذارًا فإنَّ ذلك ينفع المذنبين من المؤمنين فيعودون إلى رشدهم، وإن كان اختبارًا فإنَّه سيتبيَّن لأهل الإيمان المخلصين من الزائفين الذين لم يبلغوا من الإيمان إلَّا القشور والسطح، وفي كلِّ ذلك آياتٍ للمعتبرين والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس . جعلنا الله تعالى وإيَّاكم ممَّن ينال الدرجة العليا في كلِّ تقلباتٍ الدُّنيا وأهوالها .
الهوامش:
([1]) نهج البلاغة، تحقيق صبحي الصالح: 348 .
([2]) نهج البلاغة، تحقيق صبحي الصالح: 291 .
([3])
([4]) نهج البلاغة، تحقيق صبحي الصالح: 121 .
([5]) المصدر نفسه: 254 .
([6]) المصدر نفسه: 79 .
([7]) المصدر نفسه: 144 .
([8]) المصدر نفسه: 282 .
([9]) نهج البلاغة، تحقيق صبحي الصالح: 303 .
([10]) المصدر نفسه: 536 .
([11]) المصدر نفسه: 137 .
([12]) المصدر نفسه: 495 .