بقلم : السيد نبيل الحسني.
تناولنا في الحلقة السابقة آلية اختيار الأنسان للأمور عبر قوله (عليه السلام) لمالك الاشتر (رحمه الله): «ولْيَكُنْ أَحَبَّ الأُمُورِ إِلَيْكَ أَوْسَطُهَا فِي الْحَقِّ».
واستعرضنا معنى الوسطية في اللغة ثم انتقلنا إلى بيان موارد الحاجة إلى الوسطية وأثارها التربوية والاخلاقية المرتكزة على تنمية القدرات النفسية ، وبناء الشخصية القيادية، وفي هذه الحلقة نتناول آراء علماء الأخلاق في تحكيم الإنسان للوسطية في الأمور وما الذي يراد منها؟
فنقول: إنّ النص في العهد لمالك الاشتر يتواشج مع النّص النبوي في الأوامر والنواهي، بل في معظم ما يصدر منه (عليه السلام)، فأمير المؤمنين(عليه السلام) له جنبة قرآنية وأخرى نبوية، وما أمره لمالك الأشتر بأن يكون أحب الأمور إليه أوسطها في الحق، إلا من وحي قوله تعالى:
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}[1].
والمراد بالوسطية في علم الأخلاق وتهذيب النفس: هي الاَعتدال وضبط أصول الفضائل وفروعها المرتبطة بالقوى النفسية الأربعة، أي القوة العقلية والغضبية والشهوية والمتخيلة من الميل إلى الإفراط فما يريده طبع الأنسان والتفريط فيه ، فكلا طرفيها ذميم، أي الإفراط في الشيء وهو الزيادة أو التفريط وهو النقصان ، فلا يظن الإنسان أن ما ورد في فضيلة الجوع يراد الإفراط فيه فيكون ممدوحا عنده ، أي الجوع فيسعى في طلبه وتحصيله، فإن الأمر ليس كذلك.
بل من أسرار حكمة الشريعة أن كلما يطلبه طبع الإنسان وفيه طرف الإفراط بالغ الشرع في المنع عنه إلى المستوى الذي يتوهم فيه الإنسان أن المطلوب هو التفريط في الجوع أي الإقلال منه كي لا يقع في الضعف والمرض ويقصر عن أداء واجباتها الحياتية ، والإنسان الواعي يدرك أن المقصود من الحث على الجوع يراد منه معالجة حالة الشبع التي يبتلى بها بعض الناس ، فيكون معنى قوله (عليه السلام) : «ولْيَكُنْ أَحَبَّ الأُمُورِ إِلَيْكَ أَوْسَطُهَا فِي الْحَقِّ».
هو الوسطية في الأمر بين الجوع والشبع ، فإن طبع الإنسان (إذا طلب غاية الشبع، فالشرع ينبغي أن يطلب غاية الجوع، حتى يكون الطبع باعثا والشرع مانعا، فيتقاومان ويحصل الاعتدال.
ولما بلغ النبي (صلى الله عليه وآله) في الثناء على قيام الليل وصيام النهار، ثم علم من حال بعضهم أنه يقوم الليل كله ويصوم الدهر كله، نهى عنه)[2].
ومن ثمّ يحتاج الإنسان إلى آلية الوسطية كي تُنجيه من الوقوع في المحذور، فكانت هذه الآلية هي ترويض النفس على الاعتدال فيما يطلبه الإنسان كي يتمكن من تنمية ذاته وتطوير قدراته النفسية[3].
الهوامش:
[1] [البقرة: 143]
[2] جامع السعادات، النراقي: ج2 ص11
[3] لمزيد من الإطلاع ، ينظر : فقه صناعة الإنسان ، الأوامر والنواهي في عهد الإمام علي(عليه السلام) لمالك الاشتر(رحمه الله) ، دراسة في ضوء أصول الفقه والأخلاق ، السيد نبيل الحسني، ص181- 182/ مع بعض الإضافة، إصدار: مؤسسة علوم نهج البلاغة - العتبة الحسينية المقدسة ، ط 1 - دار الوارث كربلاء المقدسة 2023م