التربية في فكر علي بن أبي طالب (عليه السلام) كمات تبدو في نهج البلاغة: تربية عقلية

مقالات وبحوث

التربية في فكر علي بن أبي طالب (عليه السلام) كمات تبدو في نهج البلاغة: تربية عقلية

59 مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 15-03-2025

بقلم: د. جليل منصور العريَّض

الحمد لله على ما أنعم وله الشكر بما ألهم والثناء بما قدم والصلاة والسلام على خير خلقه أجمعين محمد وآله الطاهرين.

أما بعد:

تربية عقلية:
شرف الله سبحانه العقل وأعلى من شأنه، وجعله من اعظم ما خلق من الأشياء، من ذلك ما رواه الكليني من حديث قدسي عن جعفر الصادق عليه السلام عن الرسول صلى الله عليه وآله  قال «لما خلق الله العقل أستنطقه ثم قال له اقبل، فأقبل، ثم قال له: ادبر فأدبر، ثم قال له: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا هو أحب إلي منك، ولا أكملتك لا فيمن أحب، أما أني إياك آمر، وإياك أنهى، وإياك أعاقب، وإياك أثيب»([1]) لذلك فقد أمرنا الله سبحانه بإعمال العقل للوصول إلى الإيمان به، كما ورد في قوله تعالى:

{قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ}([2])، كما حثنا سبحانه بالرجوع إلى العقل كما في قوله:
{كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}([3])، ويرى الرسول صلى الله عليه وآله أن قيمة الإنسان تكمن في حسن تصرفه وصلاح عقله، كما في قوله: «إذا بلغكم عن رجل حسن حالٍ فانظروا إلى حسن عقله فإنما يجازى بفعله»([4]) لذلك اهتم آل البيت عليهم السلام بتربية العقل، على رأسهم الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام ، فمن مأثوراته التي بين فيها صفات العاقل ما رواه الكليني «إن من علامة العاقل أن يكون فيه ثلاث خصال: يجيب إذا سُئل وينطق إذا عجز القوم عن الكلام، ويشير بالرأي الذي يكون فيه صلاح أهله، فمن لم يكن فيه من هذه الخصال الثلاث شيء، فهو أحمق»([5])، فالعاقل على ذلك الأساس هو من يتمكن من العمل بجميع المزايا الإنسانية والأخلاقية ويتمكن أيضاً من تأدية التزاماته تجاه ربه وتجاه نفسه، وتجاه مجتمعه بصدق واخلاص، والعقل بكل ما اودعه الله فيه من طاقات وملكات لا حدود لها، فإنه يستطيع ان يمد الإنسان بالإرادة على فعل كل ما فيه مصلحته ومصلحة من حوله، شريطة ان يراعي بالتنمية وبالتوجيه السليم الذي يعود على الفرد وعلى المجتمع بالصلاح والسداد، لذلك فقد جعل علي عليه السلام للتربية العقلية مكانة في فكره التربوي، من ذلك انه اعتبر العقل ـ وبطريقة عملية ـ الموجه الحقيقي الصادق لكل تصرفات الإنسان المتعلقة بوجوده وبجميع شؤون حياته. فالعقل ـ في الإمام فكر علي عليه السلام ـ موجه عادل ومتزن فهو «لا يغش من أستنصحه»([6]) وبالتالي فإن العقلانية هي السمة التي تميز الإنسان عن سائر الحيوانات، لأن العقل يتعلم ويتعظ بالآداب «والبهائم لا تتعظ الا بالضرب»([7]) فالتهذيب والتعليم بالكلام وبالممارسة يجديان فيمن يُعمل عقله ويتأمل في الأشياء ومردوداتها، فيكون تعامله معها مبني على أسس موضوعية قوامها التفكير المتأني المتعقل، فالعقل كما يراه علي عليه السلام ، هاد ودليل([8]) يمكن الاعتماد عليه في جميع مسالك الحياة، فهو يؤدي إلى الإيمان القوي الراسخ بالخالق سبحانه، فيما لو أعمل الإنسان عقله، وتأمل فيما حوله، واستبطن ذاته، وتفكر في نشأته، ونشأة الكون من حوله، وقد استخدم علي عليه السلام في كثير من نصوص نهج البلاغة، الأساليب المثيرة للتفكير والداعية للتأمل([9])، كوسيلة من وسائل التربية المؤدية إلى الإيمان من ذلك قوله في نشأة الإنسان «أيها المخلوق السوي، والمنشأ المرعي في ظلمات الارحام، ومضاعفات الاستار، بدئت من سلاله طين، ووضعت في قرار مكين إلى قدر معلوم... فمن هداك لاجتراء الغذاء من ثدي مك؟ وعرفك عند الحاجة مواضع طلبك وإرادتك...»([10]) والإجابة عن الاسئلة تقتضي التفكير الموصل لا محالة إلى وجود خالق مدبر، يجدر بالإنسان شكره وطاعته والإيمان به، وهي زاوية من زوايا التربية العقلية في فكر علي عليه السلام.

ونظرة الإنسان إلى نفسه بعين العقل والتفكير، قبل الإقدام على أي عمل، والوقوف عند المجهول دون حيرة أو تردد([11])، كل ذلك يجعل من الفرد قوة دافعة تكبح الشهوات، وتنأى بالنفس عن المزالق، فمن مستلزمات انسانية الإنسان ان يحذر في كل تصرف إزاء نفسه وإزاء غيره «حذر الغالب لنفسه، المانع لشهوته، الناظر بعقله»([12]) لأن الاستجابة لنداء النفس شهوة، والشهوة نوع من أنواع العشق «ومن عشق شيئاً أعشى بصره، وأمرض قلبه، فهو ينظر بعين غير صحيحة، ويسمع بأذن غير سميعة، قد حرقت الشهوات عقله»([13])، وحتى بتفادى الإنسان ما تجلبه النفس من وبال الشهوات، عليه ان يقمعها، ولن يتأتى ذلك ـ كما يبدو لنا في فكر علي عليه السلام لتربوي ـ الا بالاعتماد على هدي العقل، إذ يقول «كفاك من عقلك ما أوضح لك سبيل غيك من رشدك»([14]).

ومعيارية العقل في فكر علي عليه السلام التربوي، ترى ان بإمكان الفرد ان يتفاعل مع مجتمعه ويعيش مع جميع فئاته عيشة يسودها الحب والاحترام إذا ما عول على فكره في تكوين علاقاته، واضعاً في اعتباره امكانية التعامل مع كل فرد بحسب مستواه العقلي، وتتمثل وجهة نظر علي عليه السلام حول تلك الفكرة في ان «التودد نصف العقل»([15]).

وواقع الحياة ـ كما يبدو في فكر علي عليه السلام ـ سعي انساني دؤوب من أجل العيش الكريم، في ظل علاقات متكاملة بين المخلوق وربه، وبين الفرد ونفسه، وبين الفرد ومجتمعه، ثم ان الفرد محتاج ـ أثناء رحلته الحياتية الشاقة ـ إلى جانب من الراحة الجسمية والعقلية، لدفع الملل والسأم والرتابة عن حياته، ويمكن للإنسان تهيئة متطلباته تلك تهيئة سليمة وعادلة بإعمال العقل، ونستطيع استخلاص ذلك من قوله «ليس للعاقل ان يكون شاخصا الا في ثلاث، مرمة لمعاش، أو خطوة في معاد، أو لذة في غير اثم»([16]).

وخلاصة التربية العقلية ـ كما تبدو في فكر علي عليه السلام ـ ان على الإنسان ان يحرص على استغلال كل طاقاته الفكرية للتفاعل مع مجتمعه بالمساهمة البناءة والإفادة من تجارب الآخرين إفادة عملية، لأنه يرى ان «العقل حفظ التجارب، وخير ما جربت ما وعظك»([17]) أي ما أفدت منه، فالعقل العالم العامل، هو الحريص على الإفادة من كل ما اكتسبه من الحياة من تجارب و«الشقي من حرم نفع ما أوتي من العقل والتجربة»([18]). فالتربية الجسمية والتربية العقلية هما العنصران الرئيسيان لبناء الشخصية ـ كما يبدو لنا في فكر علي عليه السلام التربوي لأن العقل السليم في الجسم السليم، وإذا ما أتيح للعقل أن يعمل فإنه سيكون أرضاً خصبه للتربية العلمية)([19]).

الهوامش:
([1]) الكليني ـ اصول الكافي 1/10.
([2]) العنكبوت/20.
([3]) الروم /28.
([4]) الكليني ـ أصول الكافي 1/12 ـ أي يجازى بأعماله بقدر عقله، فكل من كان عقله أكمل، كان ثوابه اجزل.
([5]) السابق 1/19.
([6]) حكم ـ 289.
([7]) رسائل ـ 31 ـ الفقرة 24.
([8]) راجع على سبيل المثال: رسائل 78، حكم 38، 96، 289.
([9]) راجع علي سبيل المثال خطبة ـ 220 ـ وما تضمنته من اسئلة تأملية.
([10]) خطب ـ 164 فقرة 3.
([11]) راجع رسائل 31 ـ الفقرة ـ 4، 7.
([12]) خطب ـ 162 فقرة 3.
([13]) خطب ـ 108 ـ فقرة 3.
([14]) حكم ـ 429.
([15]) حكم ـ 140.
([16]) حكم ـ 396 ـ المقطع الثاني.
([17]) رسائل ـ 31 ـ فقرة 22.
([18]) رسائل ـ 78.
([19]) لمزيد من الاطلاع ينظر: فكر الإمام علي عليه السلام كما يبدو في نهج البلاغة: للدكتور جليل منصور العريّض، ط: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة: ص 465-468 .

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.2883 Seconds