عمَّار حسن الخزاعي:
الحمد لله ربِّ العالمين حمدًا كثيرًا كما يستحقُّه وكما هو أهله، والصلاة والسلام على خير خلقه محمَّد وآله الطاهرين..
يعدُّ الدعاء من الطاعات العباديَّة التي ركَّز عليها الدِّين الإسلامي، وأعطاها بعدًا مهمًّا في حياة الإنسان بكلِّ تفاصيلها؛ بحيث لم يخلُ منها جانب معيَّن، وقد دخل إثر ذلك في المنظومة العباديَّة بجميع مفاصلها، وهذا المساحة التي أخذها الدُّعاء جاءته من الأهميَّة القصوى التي منحها إيَّاها القرآن الكريم وكذلك السُّنَّة المطهرة، وممَّا ورد فيه من القرآن الكريم ما جاء بقوله تعالى: ((قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ)) [الفرقان: 77] . وقوله تعالى: ((وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ)) [البقرة: 186]، وقوله تعالى: ((وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ)) [غافر: 60]، وهذه الآيات ظاهرة الدَّلالة بأهميَّة الدُّعاء وقيمته العظيمة عند الله تعالى . وأمَّا السُّنة النبويَّة فهي لم تتخلف عن القرآن في إبراز قيمة الدُّعاء وتعظيمه، وممَّا جاء فيها ما ورد عن الرسول (صلى الله عليه وآله) في قوله: ((أفضل عبادة أمتي بعد قراءة القرآن الدعاء))([1])، وقوله أيضًا: ((الدعاء مخّ العبادة))([2])، ومنها ما ورد عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام): ((نعم السلاح الدعاء))([3]) . وممَّا سبق يظهر أنَّ الدُّعاء عبادة جليلة القدر تتصدَّر السقف الأعلى للعبادات، لا تدانيها في الفضل سوى القرآن الكريم .
وقد عُرِّف الدُّعاء بجملةٍ من التعريفات، ومنها ما جاء في اللغة، وهو ((الرغبة إلى الله عزَّ وجلَّ))([4])، وقيل عنه في الاصطلاح هو: ((طلب العناية منه واستمداده إيّاه المعونة))([5])، وقيل فيه أيضًا: هو ((طلب الأدنى للفعل من الأعلى على جهة الخضوع والاستكانة))([6]) .
يتحصَّل ممَّا سبق أنَّ الدعاء هو رغبة صادقة ونيَّة مخلصة في التوجُّه إلى الحقِّ سبحانه على جهة الخضوع والاستكانة، ولذلك على الدَّاعي أن يستحضر هذا المعنى في حال توجُّهه إلى الله تعالى من أجل أن يُحقِّق ما يصبو إليه من عبادة الدُّعاء . وسنعمد في هذا المقال إلى بيان أهميَّة الدُّعاء الطبيَّة بوصفه علاجًا للأمراض والأوبئة، وبوصفه نافذةً يلج منها الإنسان فيما لو أراد الخلاص من منغصات العافية، وللدعاء أهميَّة كبرى في شفاء الأمراض عبَّر عنها الإمام الكاظم (عليه السلام) بقوله: ((لكلِّ داء دواء، فسُئِل عن ذلك؟ فقال: لكلِّ داءٍ دعاء، فإذا ألهم المريض الدعاء فقد أذن الله في شفائه))([7]) . وقوله (عليه السلام) ((لكلِّ داءٍ دعاء)) يُظهر جليًّا أهميَّة الدعاء الطبيَّة وعلاقته بشفاء الأمراض . وهذا ما سنبحثه عند أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، الذي وردت عنه أخبار تؤكِّد على أهميَّة الاستشفاء بالدُّعاء، وممَّا ورد عنه بهذا الشأن ما ورد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ في قوله: ((كُنْتُ عِنْدَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام) جَالِساً فَدَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ مُتَغَيِّرُ اللَّوْنِ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنِّي رَجُلٌ مِسْقَامٌ كَثِيرُ الْأَوْجَاعِ فَعَلِّمْنِي دُعَاءً أَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى ذَلِكَ، فَقَالَ: أُعَلِّمُكَ دُعَاءً عَلَّمَهُ جَبْرَئِيلُ (عليه السلام) لِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) فِي مَرَضِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ، وَهُوَ هَذَا الدُّعَاءُ: إِلَهِي كُلَّمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ بِنِعْمَةٍ قَلَّ لَكَ عِنْدَهَا شُكْرِي، وَكُلَّمَا ابْتَلَيْتَنِي بِبَلِيَّةٍ قَلَّ لَكَ عِنْدَهَا صَبْرِي، فَيَا مَنْ قَلَّ شُكْرِي عِنْدَ نِعَمِهِ فَلَمْ يَحْرِمْنِي، وَيَا مَنْ قَلَّ صَبْرِي عِنْدَ بَلَائِهِ فَلَمْ يَخْذُلْنِي، وَيَا مَنْ رَآنِي عَلَى الْمَعَاصِي فَلَمْ يَفْضَحْنِي، وَيَا مَنْ رَآنِي عَلَى الْخَطَايَا فَلَمْ يُعَاقِبْنِي عَلَيْهَا، صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ وَاغْفِرْ لِي ذَنْبِي، وَاشْفِنِي مِنْ مَرَضِي إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَرَأَيْتُ الرَّجُلَ بَعْدَ سَنَةٍ حَسَنَ اللَّوْنِ مُشْرَبَ الْحُمْرَةِ، قَالَ: وَمَا دَعَوْتُ اللَّهُ بِهَذَا الدُّعَاءِ وَأَنَا سَقِيمٌ إِلَّا شُفِيتُ، وَ لَا مَرِيضٌ إِلَّا بَرَأْتُ، وَمَا دَخَلْتُ عَلَى سُلْطَانٍ أَخَافُهُ إِلَّا رَدَّهُ اللَّهُ (عَزَّ وَ جَلَّ) عَنِّي))([8]). وكما هو واضح من هذا الدُّعاء فإنَّه وصفة علاج لكلِّ مرضٍ وعلَّةٍ وداء بالصِّفة الشموليَّة غير المعيَّنة بنطاقٍ معيَّن، وممَّا ورد بهذا الصَّدد أيضًا، وهو الأدعيَّة التي عنوانها لكلِّ علَّةٍ ما جاء عن أمير المؤمنين (عليه السلام) ما نصُّه: ((من أصابه ألم في جسده فليعوّذ نفسه وليقل: أعوذ بعزّة اللَّه وقدرته على الأشياء، أعيذ نفسي بجبّار السّماء، أعيذ نفسي بمن لا يضرّ مع اسمه سمّ ولا داء، أعيذ نفسي بالَّذي اسمه بركة وشفاء، فإنَّه إذا قال ذلك، لم يضرّه ألم ولا داء))([9])، ومن هذا النوع أيضًا ما ورد عنه (عليه السلام) بقوله: ((إذا اشتكى أحدكم فليقل: بسم اللَّه وباللَّه، وصلَّى اللَّه على رسول اللَّه وآله، وأعوذ بعزّة اللَّه وقدرته على ما يشاء من شرِّ ما أجد، فإنّه إذا قال ذلك، صرف اللَّه عنه الدَّاء إن شاء اللَّه))([10]) . ومن المواضع الأخرى التي وردت بخصوص فعاليَّة الدُّعاء الطبيَّة ما ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في دفع ضرر الطَّعام والأمراض التي تنتج عنه ما رواه الأصبغ بن نباتة بقوله: ((قَالَ دَخَلْتُ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) وبَيْنَ يَدَيْه شِوَاءٌ، فَقَالَ لِي: ادْنُ فَكُلْ، فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هَذَا لِي ضَارٌّ، فَقَالَ لِي: ادْنُ أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ لَا يَضُرُّكَ مَعَهُنَّ شَيْءٌ مِمَّا تَخَافُ، قُلْ: بِسْمِ اللَّه خَيْرِ الأَسْمَاءِ مِلْءَ الأَرْضِ والسَّمَاءِ، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الَّذِي لَا يَضُرُّ مَعَ اسْمِه شَيْءٌ ولَا دَاءٌ . تَغَدَّ مَعَنَا))([11]) .
هذا ما كان من شأن الأدعية التي موضوعها عام بالشفاء لكلِّ الأمراض والعلل، وهناك أدعية وردت بأنَّها شفاء لخصوص عللٍ بعينها، وقد ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام) شيء منها، وممَّا ورد عنه بهذا الخصوص ما جاء في علاج وجع الضرس بقوله: ((من اشتكى ضرسه فليأخذ من موضع سجوده، ثمَّ يمسح به على الموضع الذي يشتكي ويقول: باسم الله والكافي الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله))([12])، ومن ذلك ما ورد عنه (عليه السلام) من دعاء لوجع البطن بما نصُّه: ((شكى رجل إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) وجع البطن، فأمره أن يشرب ماءً حارًّا ويقول: يا الله يا الله يا الله يا رَحْمنُ يا رَحيمُ يا رّبَّ الاٌرْبابِ ، يا ألهَ الالَهَةِ يا مَلِكَ المُلوكِ يا سَيّدَ السّادَةِ اشْفِني بِشِفائِكَ مِنْ كُلِّ داءٍ وَسَقْمٍ فَإنّي عَبْدُكَ وَابْنُ عَبْدِكَ أتَقَلَّبُ في قَبْضَتِكَ))([13]) .
هذا ما كان من أمراض الجسد وعلله، وأمَّا لو اتَّجهنا إلى أمراض النَّفس بما يصطلح عليه اليوم بالطبِّ النفسي فإنَّنا سنجد أدعيةً معالجة لهكذا أمراضٍ أيضًا، وممَّا ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في علاج الوسواس، وهو مرضٌ نفسي ما ورد عن ((حريز بن عبد الله السجستاني، عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قال: قلت يا بن رسول الله؛ إنِّي أجد بلابل في صدري ووساوس في فؤادي، حتَّى لربَّما قطع صلاتي وشوش عليَّ قراءتي، قال: وأين أنت من عوذة أمير المؤمنين (عليه السلام)؟ قلت: يا بن رسول الله علمني، قال: إذا أحسست بشيء من ذلك، فضع يدك عليه وقل: بسم الله وبالله، اللهمَّ مننت علي بالإيمان، وأودعتني القرآن، ورزقتني صيام شهر رمضان، فامنن عليَّ بالرحمة والرضوان، والرأفة والغفران، وتمام ما أوليتني من النعم والإحسان، يا حنان يا منان يا دائم يا رحمن، سبحانك وليس لي أحد سواك، سبحانك أعوذ بك بعد هذه الكرامات من الهوان، وأسألك أن تجلي عن قلبي الأحزان . تقولها ثلاثًا فإنَّك تُعافى منها بعون الله تعالى، ثمَّ تصلى على النبي (صلى الله عليه وآله)، والسلام ورحمة الله وبركاته))([14]) . هذه أمثلة بسيطة عمَّا ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام) من الوصفات الطبيَّة بالدُّعاء، وهي وصفاتٍ بسيطة يستطع أيُّ أحدٍ أن يفعلها وفي أيِّ وقت، ولها من الأثر الكبير والفاعل في صحَّة الفرد وعافيته، ولكن يجب الانتباه إلى أنَّ ما سبق من وصفاتٍ هي أدعية أحد طرفيها الله تعالى، واستجابة الدُّعاء لها شروط أهمُّها الإخلاص بالنيَّة والتوجِّه لله تعالى، وقد قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في هذا الصَّدد: ((لا يقبل الله دعاء قلب لاه))([15]) . وكذلك من شروط الدُّعاء أن لا يكون الدَّاعي غارقًا في الذنوب والمعاصي، فإذا كان على هذا السبيل توقفت استجابة الدُّعاء له، وهذا المعنى أشار إليه أمير المؤمنين (عليه السلام) في إحدى خطبه بقوله: ((إنَّكم جعلتم عيوب الناس نصب عيونكم، وعيوبكم وراء ظهوركم، تلومون من أنتم أحق باللوم منه، فأي دعاء يستجاب لكم مع هذا ؟ وقد سددتم أبوابه وطرقه، فاتقوا الله، وأصلحوا أعمالكم، وأخلصوا سرائركم، وأمروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر، فيستجيب الله لكم دعاءكم))([16]) .
وإلى هنا تظهر أهميَّة الدُّعاء الطبيَّة التي فيها يتمُّ معالجة كثيرٍ من الأمراض فيما لو طبَّقنا شروط الدُّعاء، ولذلك علينا أن نلجأ إلى الله تعالى بالدُّعاء في دفع البلاء عن أنفسنا وأهلنا وجميع المؤمنين والمؤمنات، وأن نلتزم بما ورد من أدعيةٍ مأثورة عن النبي محمَّد وأهل بيته (عليه وعليهم الصلاة والسلام) .
الهوامش:
([1]) الدعوات (سلوة الحزين)، قطب الدين الراوندي (ت: 573 هـ): 19 .
([2]) الدعاء، الطبراني (ت: 360 هـ): 24 ، وسائل الشيعة، الحر العاملي (ت: 1104 هـ): 7/27 .
([3]) عيون الحكم والمواعظ، علي بن محمد الليثي الواسطي (ت: ق 6 هـ): 494 .
([4]) لسان العرب: 14/ 257.
([5]) مفاتيح الغيب: 5/ 97.
([6]) عِدة الداعي ونجاح الساعي: 20.
([7]) مكارم الأخلاق، الشيخ الطبرسي (ت: 548 هـ): 389 .
([8]) مهج الدعوات ومنهج العبادات، السيد ابن طاووس (ت: 664 هـ): 8 .
([9]) هداية الأمة إلى أحكام الأئمة (عليه السلام)، الحر العاملي (ت: 1104 هـ): 1/232 .
([10]) المصدر نفسه .
([11]) الكافي، الشيخ الكليني (ت: 329 هـ): 6/318 .
([12]) مكارم الأخلاق، الشيخ الطبرسي (ت: 548 هـ): 405 .
([13]) طب الأئمة (عليه السلام)، عبد الله وحسين بن سابور الزيات (ت: 401 هـ): 28 .
([14]) المصدر نفسه: 27 .
([15]) هداية الأمة إلى أحكام الأئمة (عليه السلام): 3/105 .
([16]) بحار الأنوار، العلامة المجلسي (ت: 1111 هـ): 90/377.