عَلِيّ الأكبر (سلام الله عليه) بين المؤازرة والوداع.

مقالات وبحوث

عَلِيّ الأكبر (سلام الله عليه) بين المؤازرة والوداع.

10K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 29-08-2020

عليّ عبَّاس فاضل

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير الخلق أجمعين أبي القاسم محمد وآله الطيبين الطاهرين، وبعد
تركت فاجعة الطف ألما وحزنا في نفوس المسلمين على مر العصور، وفي كل يوم يتجدد ذلك الحزن على سيد الشهداء ومن أستشهد معه من الآل والأصحاب، وقد زخرت تلك الملحمة العظيمة بمواقف كثيرة، منها توديع الأب لابنه ليقتل، تلك اللحظة التي تهز كيان الأب في توديع فلذة كبده ويفارقه، بعد أن رآه شابا في مقتبل عمره، لكن آل البيت (عليهم السلام) آثروا أنفسهم وما يملكون في سبيل الله ونصرة دينه، سنعرج في أسطرنا هذه إلى لحظة الوداع بين الإمام الحسين وولده علي الأكبر (عليها السلام).
وكانت أولى محطات الوداع ما روي عن عقبة بن سمعان قال: (لما كان السحر من الليلة التي بات الحسين (عليه السلام) فيها بقصر بني مقاتل أمرنا بالاستسقاء ثم ارتحلنا، فبينا هو يسير إذ خفق الإمام الحسين (عليه السلام) برأسه خفقة وانتبه وهو يسترجع ويقول: إنا لله وإنا إليه راجعون والحمد لله رب العالمين كرر ذلك ثلاثا.
فأقبل إليه ابنه علي الأكبر وكان على فرس له، وقال له جعلت فداك مم استرجعت وحمدت الله؟ فقال الحسين (عليه السلام): خفقت برأسي خفقة فعرض لي فارس يقول: القوم يسيرون والمنايا تسري إليهم، فعلمت أنها أنفسنا نعيت إلينا. قال علي الأكبر (عليه السلام) يا أبت ألسنا على الحق؟ فقال الحسين (عليه السلام): بلى والذي إليه مرجع العباد. فقال علي الأكبر (عليه السلام): إذاً لا نبالي أن نموت محقين. فقال الحسين عليه السلام: جزاك الله من ولد خير ما جزى ولدا عن والده)([1]).
ففي هذا الموقف علم الإمام الحسين (عليه السلام) أنه مفارق لأهله وأصحابه، وأول من كان بجانبه هو ابنه علي الأكبر (عليه السلام) يسأله عن الذي جعله يسترجع ويحمد الله، فأجابه الإمام (عليه السلام) بأنهم ذاهبون إلى الموت وهي لحظة صعبة على الأب حين يرى ابنه قرة عينه ذاهب إلى الموت، لكن الابن خفف من حد الألم على أبيه بكلامه أنه لا نبالي أن نموت محقين، فكان نعم الابن البار بوالديه.
ومن عظيم المواقف ذلك الذي دفع فيه الإمام الحسين (عليه السلام) ولده إلى القتال ويتضح ذلك من دعاء الإمام (عليه السلام) على ابن سعد، إذ روي: (لما رأى الإمام إصرار ولده الأكبر على القتال وتفانيه في محاربة القوم صاح: "يابن سعد قطع الله رحمك كما قطعت رحمي ولم تحفظني في رسول الله، وسلط عليك من يذبحك على فراشك". ثم قال: "اللهم اشهد على هؤلاء فقد برز إليهم أشبه النّاس برسولك محمّدٍ خَلقاً وخُلقاً ومنطقاً. وكنّا إذا اشتقنا إلى رُؤيةِ نَبيك نَظرنا اِليه". ثم قال: "أللّهم امنعهم بركات الأرض، وفرقهم تفريقاً، ومزقهم تمزيقاً، واجعلهم طرائق قدداً، ولا ترض الولاة عنهم أبداً، فإنّهم دعونا لينصرونا ثم عدوا علينا يقاتلوننا". ثمّ رفع صوته وتلا: "إنّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وآلَ إبراهِيمَ وآلَ عِمْرانَ على العالَمين * ذُريةً بَعضُها مِنْ بعض واللهُ سَميعٌ عليمٌ"([2]))([3]).
ويظهر من ذلك ما حلّ بالإمام الحسين (عليه السلام) من الألم ولحزن على ولده حين قدمه للقتال ويعلم أنه مقتول لا محالة، ثم تقدم علي الأكبر (عليه السلام) إلى القوم فقاتلهم قتالا شديدا وقتل كثيرا منهم، ثم رجع إلى الإمام الحسين (عليه السلام): (يا أبت العطش قد قتلني وثقل الحديد قد أجهدني، فهل إلى شربة ماءٍ من سبيل؟" فقال له الحسين: "قاتل قليلاً فما أسرع ما تلقى جدّك محمداً صلى الله عليه وآله وسلم فيسقيك بكأسه الأوفى شربة لا تظمأ بعدها)([4]).
وهذا اللقاء هو الأخير بين الأب وابنه، ووعد الأب لابنه أن سيلقى جده رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) فيسقيه شربة ماء لا يظمأ بعدها أبدا، ثم ودع أباه وعاد إلى المعركة وشد على القوم وكان ينشد([5]):

أنا علي بن الحسين بن علي        نحن وبيت الله أولى بالنبي

ولا زال يقاتلهم قتالا شديدا حتى بصر به مرة بن منقذ العبدي فقال: علي آثام العرب إن مرّ بي إن لم اثكله أباه، فمرّ الأكبر يشدّ على الناس كما مرّ في الأوّل فاعترضه مرّة بن منقذ وطعنه، فصرع واحتواه القوم فقطعوه بأسيافهم. فلمّا بلغَت روحه التّراقي قال رافعاً صوتَهُ: "يا أبتاهُ هذا جَدّي رسول الله قد سقاني بكأسه الأوفى شِرْبةً لا أظمأ بعدها أبداً وهو يقولُ العَجَل العَجَل فإنّ لك كأساً مذخورة، ثم فاضت روحه الطاهرة")([6]).
وكان اللقاء الأخير بين الأب وابنه لكن هذه المرة بين شهيد وأبيه، فالابن مضرج بدمه والأب مفجوع بابنه ملبيا دعوته فجاء الحسين عليه السلام حتّى وقف عليه ووضع خدّه على خدّه وهو يقول: (قَتَل اللهُ قَوْماً قتلوك ما أجْرأهُم على الرّحمن وعلى انتهاك حُرْمَةِ الرّسول"، ثمّ قال: "على الدّنيا بَعْدَك العَفَا)([7])، وقد رمى الإمام الحسين (عليه السلام) بدمه إلى السماء فم تسقط منه قطرة([8])، وهو أول هاشمي يقتل في هذه المعركة([9]).
وهكذا كان وداع الأب ابنه في مراحل حتى وصل إلى الشهادة في سبيل الله وإعلاء كلمة الحق والوقوف بوجه الباطل والظلم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ليبقى الدين المحمدي بدم الحسين وأهل بيته وأصحابه ثابتا صحيحا على مبادئه الأصيلة.
وختاما نسأل الله العلي القدير أن يجعلنا مع الحسين (عليه السلام) في الدنيا والآخرة وأن يرزقنا شافعته وشفاعة جده رسول الله (صلى الله عليه وآله) يوم الورود إنه سميع مجيب...

الهوامش:
([1])الكامل في التاريخ: 3/ 161، لواعج الأشجان للسيد محسن الأمين ص98 .
([2]) سورة آل عمران: 33- 34.
([3]) مقتل الحسين، الخوارزمي: 2/ 35، مثير الأحزان، ابن نما الحلي: 68، اللهوف، ابن طاووس: 139. 
([4]) مقتل الحسين، الخوارزمي: 2/ 35.
([5]) الإرشاد، المفيد: 459.
([6])تاريخ الأمم والملوك، الطبري: 3/ 335، مقاتل الطالبيين، أبو الفرج الأصفهاني: 115،الإرشاد، المفيد: 459، اللهوف، ابن طاووس: 49، بحار الأنوار، المجلسي:  45/ 44.
([7])وقعة الطف، أبو مخنف: 278، الإرشاد، المفيد: 459، مثير الأحزان، ابن نما الحلي: 247، اللهوف، ابن طاووس: 139.
([8]) ينظر: مقتل الإمام الحسين (عليه السلام)، المقرم: 272.
([9]) ينظر: وقعة الطف، أبو مخنف: 276، مقاتل الطالبيين، أبو الفرج الأصفهاني: 86.

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.2332 Seconds