بقلم: السيد نبيل الحسني
الحمد لله ربّ العالمين، والصَّلَاة والسَّلَام على خير خلقه أجمعين محمد وآله الطَّيِّبين الطَّاهِرِين...
وجد عمر بن سعد أن الموازين في الحرب قد تغيّرت فقد خسر الحرب بعد هذه الجولة في ميدان الفكر والعقيدة وظهور المدد الإلهي للإمام الحسين عليه السلام، وذلك عبر ظهور بعض الآيات في استجابة دعاء الإمام الحسين عليه السلام على ابن حوزة وابن الأشعث وخطاب الإمام الحسين عليه السلام وزهير بن القين وبرير بن خضير والحر بن يزيد الرياحي وتعري عقيدة الجند وانكشاف ما أسسه الولاة في ظلم آل محمد (عليه وعليهم السلام) مما تطلب المبادرة السريعة وزج الناس في القتال كي لا يتمرد عليه بعض قادة جيشه كما حصل للحر بن يزيد الرياحي فعزم على الإسراع في المعركة والتقاتل وإشغال الناس وإشراكهم في الجريمة.
بمعنى: إن كان الإمام الحسين عليه السلام قد ربح الحرب فلن يسمح عمر بن سعد أن يخسر المعركة، وهذا التحرك يصفه روبرت غرين[1] الدراسات العسكرية والإستراتيجية بـ(الإستراتيجية الشاملة) وهي التي ظهرت في منهج الإمام الحسين عليه السلام في حربه مع خصمه، إذ تقول الدراسات حول هذه الإستراتيجية: (أخسر المعركة ولكن أربح الحرب)؛ وذلك أن الإستراتيجية الشاملة، هي فن النظر إلى ما هو أبعد من ساحة المعركة والقيام بالحسابات المسبقة.
وهي تستلزم أن تركّز على هدفك الأساسي وتخطط للوصول إليه، دع الآخرين ينشغلون في تفاصيل المعركة، ويبتهجون بانتصاراتهم الصغيرة، لأن الإستراتيجية الشاملة ستأتي لك بالجائزة الكبرى: أن تكون من يضحك أخيرا)([2]).
وهكذا كانت نتيجة معركة الطف، فقد ابتهج يزيد بن معاوية وعبيد الله بن زياد وعمر بن سعد وقادة الجيش بالانتصارات العسكرية والقتالية، لكنهم سرعان ما ذهبوا قتلاً وسقطت دولتهم وافتضحوا في فسادهم وانكشف كفرهم ونفاقهم وتهاوت عقيدتهم، وكان الحسين عليه السلام وأصحابه وأهل بيته هم الذين فرحوا أخيراً فلا خوف عليهم بعدئذ ولا هم يحزنون، فقد ربحوا الحرب، حرب التوحيد والإصلاح في أمة جده محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وعليه:
لم يجد أمير الجيش حينها سوى القتال (فتقدم حتى وقف قبالة الحسين عليه السلام على فرس له، فاستخرج سهما فوضعه في كبد القوس ورمى بسهم، وقال: اشهدوا لي عند الأمير أني أول من رمى، ثم رمى الناس، فلم يبق من أصحاب الحسين عليه السلام أحد إلا أصابه من سهامهم، فقال عليه السلام لأصحابه:
«قوموا رحمكم الله إلى الموت الذي لابد منه، فإن هذه السهام رسل القوم إليكم»([3]).
وهذه المرحلة من المعركة كشفت عن بعض الأمور، وهي:
1 - أصبح الآن أن الحرب في هدفها الثاني، بعد العقائدي، هو المصالح الشخصية والحصول على المال والتقرب من أمير الكوفة حتى لو تطلب الأمر قتل نفس النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لو وقف في طريقهم لتحقيق تلك الأهداف والمصالح الشخصية، وعلى مبدأ (اشهدوا لي عند الأمير بأني أول من رمى).
2 - تعرية العدو أمام التاريخ والبشرية فلم يبق بعد الآن قناع إلا وقد سقط وظهرت حقيقة السلطة ورموزها.
3 - في المقابل كذاك عرفت الأضداد، أي: تتجلى شرف المبادئ التي حملها الإمام الحسين عليه السلام وأصحابه وعقيدتهم بالله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم وإنهم يقاتلون في سبيل الله، وفي سبيل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وفي سبيل الحياة الكريمة للناس جميعاً حينما تسود شريعة الله في الأرض؛ فمن أرحم من الله تعالى بعباده وخلقه وقد كتب على نفسه الرحمة وهو أرحم الراحمين.
4 - ملاقاة الموت بقلوب من حديد فلا يبالي الحسين وأصحابه وأهل بيته عليهم السلام بهذه الرسل التي جاءتهم من القوم، فقد هبوا لملاقاتها كما قال سيدهم وأميرهم وإمامهم الحسين بن علي عليهما السلام:
«قوموا رحمكم الله إلى الموت الذي لابد منه، فإن هذه السهام رسل القوم إليكم».
فقد كسب الإمام الحسين عليه السلام وأهل بيته وأصحابه عليهم السلام الحرب ولم يبق سوى الفوز بالشهادة وذلك أن عقيدتهم ومبدأهم في هذا السير عدم المبالاة بالموت. إنها عقيدة ومبدأ تجلى في قول علي الأكبر عليه السلام قبل أن يصل الركب إلى أرض كربلاء حينما سمع أباه الحسين عليه السلام وهم في قصر بني مقاتل يقول:
«إنا لله وإنا إليه راجعون»، و«الحمد لله رب العالمين»، مرتين.
فأقبل: إليه وهو على فرس فقال له: يا أبه جعلت فداك مم استرجعت؟ وعلام حمدت الله؟ قال الإمام الحسين عليه السلام:
«يا بني، إنه عرض لي فارس على فرس فقال: القوم يسيرون والمنايا تسير إليهم فعلمت أنها أنفسنا نعيت إلينا».
فقال: يا أبتاه لا أراك الله سوءاً أبداً، ألسنا على الحق؟ قال عليه السلام:
«بلى والذي إليه يرجع العباد».
فقال علي الأكبر عليه السلام: يا أبت فإذاً لا نبالي، فقال عليه السلام:
«جزاك الله خير ما جزى ولد عن والده»([4]).
وهكذا فإن هذه الاستراتيجيات المستخدمة في حرب الإمام الحسين عليه السلام على خصومه في يوم عاشوراء قد حققت بلوغ الهدف، هدف الحرب قبل البدء بالقتال العسكري على أرض الطف؛ إلاّ أن بلوغ الهدف في كسب الحرب وانتصار نهج الإمام الحسين عليه السلام وتحقق الإصلاح في أمة جده لم يكن بمعزل عن الإنجازات العسكرية من خلال مجموعة من التكتيكات القتالية أعجزت جيش الكوفة عن تحقيق نصرهم العسكري في وقت قصير وقد تزايدوا عن ثلاثين ألفاً ولم يبلغوا النصر الحاسم.
بل تفيد النصوص التاريخية عن سير المعركة: أن أمير الجيش وقادة الأجنحة أعياهم القتال لهذه المجموعة الذين لم يتجاوزوا المئة رجل ولم يتحقق لهم ما أرادوا إلا بعد أن قدموا الخسائر الكبيرة في الأرواح واستنزاف الجيش وبعد مرور ساعات عديدة على المعركة؛ أي من شروق شمس يوم العاشر إلى رحيل قرص الشمس من هذا اليوم.
وذلك بفعل فنون الحرب والتكتيكات العسكرية التي استخدمها الإمام الحسين عليه السلام في قتاله لأعداء الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم في يوم العاشر من محرم[5].
الهوامش:
[1] ولد في 14 مايو 1959 وهو كاتب امريكي اشتهر بكتبه حول النفوذ والاستراتيجيات والسلطة، وتعد كتبه من أكثر الكتب مبيعاً.
([2]) كتاب 33 إستراتيجية للحرب، تأليف: روبرت غرين: ص15.
([3]) تاريخ الطبري: ج4، ص326؛ الإرشاد للمفيد: ج2، ص101؛ الفتوح لابن أعثم: ج5، ص100؛ أنساب الأشراف: ج3، ص190؛ الدر النظيم للشامي العاملي: ص554؛ نهاية الأرب للنويري: ج20، ص446 (باختلاف يسير في بعض المصادر).
([4]) مقاتل الطالبيين لأبي الفرج الأصفهاني: ص74؛ الإرشاد للمفيد: ج2، ص82.
[5] لمزيد من الاطلاع ينظر: الاستراتيجية الحربية في معركة عاشوراء، للسيد نبيل الحسني: ط1، مؤسسة الأعلمي، نشر العتبة الحسينية 2014م.