الباحِث: سَلَام مكّي خضيّر الطَّائِيّ
الحمدُ لله ربّ العالمين، والصَّلَاة والسَّلَام على أشرف الأنبياء والمرسلين، أبي القاسم مُحَمَّدٍ وآله الطَّيِّبين الطَّاهِرِين، والغرّ الميامين المُنتجبين...
أمَّا بعد...
فإنَّ من محاسن الأخلاق والصِّفات الحميدة التي أكدَّت عليها الشّريعة الاسلاميَّة، هي: (الإحسان للآخرين)، لما في هذه الصّفة من تنزيه للنفس وتزكية لها، فضلًا عن كسب ودّ النّاس وحبّهم للفرد الذي قام بالإحسان، والتّقرّب منه والاقتداء به لما يحمله من محاسن الأخلاق الحميدة، وابتعاده عن الصّفات الذَّميمة، وأنَّه يكون كفيلًا في إبعاد من يريد له السّوء والأذى، لا سيما من يريد إيذاءه بالكلام، فروي عن أمير المؤمنين (عليه السَّلَام) إنَّه قال: (الاحسان يقطع اللسان)[1]، يعنى إذا أردت أن تدفع جفاء الإنسان خصوصًا أن تتخلَّص عن أذى اللسان فكن على الدوام مع البر والإحسان فإنّه أمر عظيم الشأن، ولا شيء أقطع منه لأذى اللسان[2].
فلفظ القطع استعمله الإمام (عليه السَّلَام) ههنا مجازًا في منع الكلام القبيح الخارج عن لسان الذَّام، أمَّا الإحسان لا يجعل اللسان يخرج عنه الكلام القبيح وغير اللائق، بل على العكس من ذلك، ويكون بسبب هذا الإحسان منع اللسان من الكلام بما لا ينبغي، ووجه المناسبة: أن الغاية من قطع اللسان بالآلة القطاعة ترك الكلام فكذلك في الغاية من اسكاته بالعطيَّة، وهذا من محاسن الاستعارة.
وخير مثال على قطع اللسان واسكاته بالكرم والعطاء وكف الكلام غير اللائق الذي ممكن أن يصدر من شخصٍ ما، ما روي عن الإمام أبي عبد الله جَعْفَر بن مُحَمَّدٍ الصَّادِق (عليهما السَّلَام) قال: (جاءَ شاعِرٌ إلَى النَّبِيِّ (صلَّى الله عليه وآله) فَسَأَلَهُ وأطراهُ، فَقالَ لِبَعضِ أصحابِهِ: قُم مَعَهُ فَاقطَع لِسانَهُ.
فَخَرَجَ ثُمَّ رَجَعَ، فَقالَ: يا رَسولَ اللهِ، أقطَعُ لِسانَهُ؟ ! قالَ: إنَّما أمَرتُكَ أن تَقطَعَ لِسانَهُ بِالعَطاءِ)[3].
فالظَّاهر من هذا الحديث قطع اللّسان بالسّكين، لكنّ القرينة العقليّة تدلُّ على عدم كونه مرادًا ولم يفهمه الصَّحابيّ حتّى دلّه غيره بأنّ المراد الإحسان إلى الشاعر فإنّ الإحسان يقطع اللّسان إذ لا يأمر النَّبِيّ (صلَّى الله عليه وآله) بقطع اللّسان من غير ذنبٍ ولا تقصير[4].
ويمكننا القول: إنَّ هذا الإحسان وإنَّ كان قاطعًا للسان إلَّا أن قطعه ليس بدائم ولا مستمر، بل هو موقوف على دوام الإحسان وانقطاعه مع بعض النَّاس، ويمكننا أيضًا أن نقول: إنَّ بعض النَّاس يكفي الإحسان إليهم مرَّة واحدة، ثم اعلم أن الإحسان كما يقطع اللسان فهو موجب للألفة والمحبَّة، فيؤثّر في النَّاس ويزرع محبّة من أحسن إليهم في قلوبهم، وهي سبب لتحصيل السَّعادتين، وعلّة لاستحقاق المنزلتين، وموجبة لمحبّة الخالق والحصول في جواره المقدَّس كما أشير إليه في التنزيل الإلهي: ﴿وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾[5].
وفي ختام مقالنا هذا نسأل الله تعالى أن يجعلنا من المُحسنين للنَّاس، لنفوز بالرّضا والمغفرة منه سبحانه، والحمد لله ربّ العالمين، وصلَّى الله تعالى على سيِّدنا مُحَمَّدٍ وآله الطَّيِّبين الطَّاهِرِين...
الهوامش:
[1] المناقب، الموفق الخوارزمي: 376.
[2] شرح كلمات أمير المؤمنين عَلِيّ بن أبي طالب (صلوات الله تعالى وسلامه عليه)، عبد الوهَّاب: 55.
[3] دعائم الإسلام، القاضي النّعمان المغربي: 2/323.
[4] ينظر: شرح أصول الكافي، مولى محمَّد صالح المازندراني: 1/15.
[5] سورة آل عمران: 134.