بقلم: أ. د. ختام راهي الحسناوي
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وآله الطيبين الطاهرين.
أما بعد:
إن النقاش والموازنة في الفضل بين الصحابة قد جرى في وقتٍ مبكر من عمر الإسلام، استدعاه الظرف السياسي الذي أعقب وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) والخلاف بشأن مَنْ يتولى خلافة النبي (صلى الله عليه وآله) الأفضل أم المفضول؟ ومع أن هذا النقاش الأولي كان تلقائياً وعفوياً في هذه القضية لم يصل إلى ما وصل إليه فيما بعد من اجتهادات بين الفرق والمذاهب الإسلامية إلاّ أنه كان الأساس الذي استندت إليه تلك الفرق في التقديم والتأخير.
وقد اعتمد أكثر أهل النظر في التفضيل بين صحابة رسول الله (صلى الله عليه وآله) على ثلاث طرق ([1]):
إحداها: ظواهر الأعمال.
والثاني: السمع الوارد بمقادير الثواب، وما دلت عليه معاني الكلام.
والثالث: المنافع في الدين بالأعمال.
وبتعبير أكثر دقة حُددت خصال الفضل ووجوهه بـ([2]): السبق إلى الإسلام، والجهاد بين يدي رسول الله (صلى الله عليه وآله)، والعلم بالدين، والإنفاق في سبيل الله جلّ اسمه، والزهد في الدنيا.
ومنازل الفضل تتحصل بشيئين([3]):
أحدهما: خطير الأعمال التي يتعاظم معها مستحق الثواب.
والآخر: التفضل من الله تعالى والاختصاص، ولا لبس في أنه–سبحانه وتعالى–يختص برحمته من يشاء.
ونفهم مما تقدم أن المنزلة المقتضية للتفضيل تتأتى من: (تمييز وتفضل إلهي)، و(جهد شخصي) لسلوك طريق الخير، و((مطابقة الأفعال الارادية للقانون الأخلاقي أو مجموع قواعد السلوك المعترف بقيمتها))([4])
وهذا هو مضمون الفضيلة في علم الأخلاق.
وقد فصّل لنا الشيخ المفيد آراء أصحاب الفرق حتى عصره في تفضيل الإمام علي (عليه السلام)([5]):
فقائل يقول: أن أمير المؤمنين علياً (عليه السلام) كان أفضل من الكل في وقت الرسول (صلى الله عليه وآله) ولم يساوه أحد بعد ذلك، وهم الشيعة الإمامية والزيدية وجماعة من شيوخ المعتزلة وجماعة من أصحاب الحديث.
وقائل يقول: أنه لم يبن لأمير المؤمنين في وقت من الأوقات فضل على سائر الصحابة يقطع به على الله عزّ وجل وتجزم الشهادة بصحته ولا بان لأحدٍ منهم فضل عليه، وهم الواقفة من المعتزلة.
وقائل يقول: أن أبا بكر كان أفضل من عليّ أمير المؤمنين في وقت الرسول (صلى الله عليه وآله) وبعده، وهم جماعة من المعتزلة، وبعض المرجئة وطوائف من أصحاب الحديث.
وقائل يقول: أن أمير المؤمنين خرج عن فضله بحوادث كانت منه فساواه غيره وفضَّل عليه من أجل ذلك مَنْ لم يكن له فضل عليه، وهم الخوارج وجماعة من المعتزلة.
ونلحظ مما أورده الشيخ المفيد أن أتباع مدرستي الاعتزال (البصرية والبغدادية)([6]) قد اختلفوا في التفضيل: فقال قدماء البصريين أن أبا بكر أفضل من علي (عليه السلام) وهؤلاء يجعلون ترتيب الخلفاء الأربعة (أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي) في الفضل كترتيبهم في الخلافة، بينما ذهب جماعة من معتزلة البصرة إلى تفضيل الإمام علي، وتميزت معتزلة بغداد قاطبة قدماء ومتأخرين بالقول: أن علياً (عليه السلام) أفضلُ من أبي بكر، وذهب كثير من شيوخ المعتزلة إلى التوقف فيهما([7]).
ولا شك أن الذاهبين إلى مذهب التفضيل من المعتزلة كانوا يرون ذلك على معنى الأكثر ثواباً، والأجمع لمزايا الفضل والخلال الحميدة([8])، بينما كانت الإمامية تحتكم في تفضيل الإمام علي (عليه السلام) إلى النص، وما اجتمع له من خصال الفضل والرأي والكمال: مِن سَبقه الجماعة إلى الإيمان، والتبريز عليهم في العلم بالأحكام، والتقدم لهم في الجهاد، والبينونة منهم بالغاية في الورع والزهد والصلاح، واختصاصه من النبي (صلى الله عليه وآله) في القربى بما لم يُشركه فيه أحد من ذوي الأرحام([9])([10]).
الهوامش:
([1]) الشيخ المفيد، تفضيل أمير المؤمنين، ص36.
([2]) الشيخ المفيد، الافصاح، ص231–232.
([3]) الكراجكي، الرسالة العلوية، ص7.
([4]) صليبا، المعجم الفلسفي، 2/148.
([5]) الشيخ المفيد، الفصول المختارة، ص99–100. ولمزيد عن آراء المتكلمين والأشاعرة في التفضيل ينظر: البغدادي، الفَرق بين الفِرق، ص260–261، ابن حزم، الفصل، 4/181–183.
([6]) نشأت أول مدرسة للاعتزال في البصرة على يد واصل بن عطاء وزميله عمرو بن عبيد، وقد وضع رجالات هذه المدرسة القواعد والأصول الأساسية للاعتزال.
([7]) ابن أبي الحديد، شرح النهج، 1/7–8. وينظر: جدول رقم (1).
([8]) ومنهم ابن أبي الحديد المعتزلي. المصدر نفسه، 1/8.
([9]) الشيخ المفيد، الإرشاد، 1/7.
([10]) لمزيد من الاطلاع ينظر: رواية فضائل الإمام علي (عليه السلام) والعوامل المؤثرة فيها، للدكتورة ختام راهي الحسناوي.