مقاصدية قول الإمام الحسين (عليه السلام): (شاء الله أن يراهن سبايا) بين المشيئة التشريعية والتكوينية.

مقالات وبحوث

مقاصدية قول الإمام الحسين (عليه السلام): (شاء الله أن يراهن سبايا) بين المشيئة التشريعية والتكوينية.

5K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 08-09-2020

بقلم السيد نبيل الحسني

الحمد لله الذي لا يبلغ مدحته القائلون ولا يحصى نعمائه العادون، ولا يؤدي حقه المجتهدون، وازكى صلواته واتم سلامه على المبعوث رحمة للعالمين وآله المنتجبين أساس الدين وعماد اليقين.
أما بعد:
إن الله تعالى قد شاء أن يجعل الأرض دار اختبار وبلاء، وشاء أن يجعل فيها خليفة وأنبياء ورسلاً وأئمة، وشاء أن يجعل في الإنسان الغرائز والشهوات والعقل فهذا وما شابهه كله من الإشاءة التكوينية.
وأما الإشاءة التشريعية: فهي أن الله تعالى قد شاء أن يعبد وحده مخلصين له الدين، وأن يؤمن برسله وأنبيائه، وكتبه، وشاء سبحانه من عباده طاعة هؤلاء الأنبياء، ثم فرض عليهم العبادات والمعاملات وشرعها لهم، وبينَّ لهم الحق كي لا يخوضوا في الباطل، وامرهم بالعدل والاحسان كي لا يقعوا في الظلم وشاء أن يتراحموا ويتباروا وغيرها من التشريعات الإلهية وكلها ضمن مشيئته سبحانه.
إلا أن الإنسان خلط بين المشيئة التكوينية والمشيئة التشريعية؛ كي يجد مبرراً لما يقترفه من ذنوب ومعاصٍ وتعدٍ للحدود فيجعل -وعلى سبيل المثال- القتل غرضاً للسرقة أو للوصول إلى السلطة ثم يقول لو شاء الله لم يقتل فلان أو لم أكن قاتلاً؛ في حين أن الإنسان القاتل هو الذي شاء قتل أخيه بعد أن انقاد لشهواته وغرائزه؛ فالموت هنا: مشيئة تكوينية، لكن طريقة الموت وهو القتل مشيئة تشريعية بمعنى: أن الله تعالى شاء حرمة القتل ونهى عنه وحذر منه وعاقب عليه لكن القاتل بيده شاء ذلك.
من هنا:
نجد أن القرآن الكريم يتعرض في أكثر من موضع لهذه الحقيقة وأن المشيئة، هي مشيئتان، مشيئة تكوينية ومشيئة تشريعية، وذلك عبر قوله تعالى:
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}([1]).
وفي بيان هذه المسألة يقول العلامة الطباطبائي رحمه الله:
(وقوله:
{اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ}.
جوابهم للدعوة إلى الانفاق، وإنما أظهر القائل ــ الذين كفروا ــ ومقتضى المقام الإضمار للإشارة إلى أن كفرهم بالحق وإعراضهم عنه باتباع الشهوات هو الذي دعاهم إلى الاعتذار بمثل هذا العذر المبني على الاعراض عما تدعو إليه الفطرة من الشفقة على خلق الله وإصلاح ما فسد في المجتمع كما أن الاظهار في قوله: (الذين آمنوا) للإشارة إلى أن قائل (أنفقوا مما رزقكم الله) هم الذين آمنوا.
وفي قولهم: (أنطعم من لو يشاء الله أطعمه) إشعار بأن المؤمنين إنما قالوا لهم: (أنفقوا مما رزقكم الله) بعنوان أنه مما يشاؤه الله ويريده حكما دينيا فردوه بأن إرادة الله لا تتخلف عن مراده فلو شاء أن يطعمهم أطعمهم أي وسع في رزقهم وجعلهم أغنياء.
وهذه مغالطة منهم خلطوا فيه بين الإرادة التشريعية المبنية على الابتلاء والامتحان وهداية العباد إلى ما فيه صلاح حالهم في دنياهم وآخرتهم، ومن الجائز أن تتخلف عن المراد بالعصيان، وبين الإرادة التكوينية التي لا تتخلف عن المراد. ومن المعلوم أن مشيئة الله وإرادته المتعلقة بإطعام الفقراء والانفاق عليهم من المشيئة التشريعية دون التكوينية فتخلفها في مورد الفقراء إنما يدل على عصيان الذين كفروا وتمردهم عما أمروا به لا على عدم تعلق الإرادة به وكذب مدعيه.
وهذه مغالطة بنوا عليها جل ما افتعلوه من سنن الوثنية وقد حكى الله سبحانه ذلك عنهم في قوله:
{وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ}([2]).
وقوله:
{سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ}([3]).
وقوله:
{وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ}([4]).
وقوله:
{إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}([5]).
من تمام قول الذين كفروا يخاطبون به المؤمنين أي إنكم في ضلال مبين في دعواكم أن الله أمرنا بالانفاق وشاء منا ذلك)([6]).
وبهذا يتضح أن الله تعالى قد شاء أن يرى بنات الرسالة سبايا مشيئة تكوينية ليرى سبحانه وهو العالم بحقائق الأشياء ومحيط بدقائق الأمور صبرهن وطاعتهن ليكون ذلك، أي الصبر ضمن المشيئة التشريعية، هذا من جهة.
ومن جهة ثانية: قد شاء سبحانه في المشيئة التشريعية أن يبتلي الأمة بمودة آل محمد(صلى الله عليه وآله) فكان سبيهن انتهاكا للمشيئة التشريعية لأن الله تعالى لا يشرع الظلم والقتل.
وعليه:
فإن انتهاك حرمتهم وقتلهم وسبي نسائهم وأطفالهم من أعظم الانتهاكات التشريعية لما يترتب على ذلك من تعد على الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم وجميع الرسالات والتشريعات الإلهية.

الهوامش:
([1]) سورة يس، الآية: 47.
([2]) سورة النحل، الآية: 35.
([3]) سورة الأنعام، الآية: 148.
([4]) سورة الزخرف، الآية: 20.
([5]) سورة يس، الآية: 47.
([6]) تفسير الميزان للسيد الطباطبائي: ج17، ص93 ــ 94.

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 1.4291 Seconds