من مفاهيم سيكولوجية الصورة الذاتية في خطاب الإمام علي (عليه السلام): مفهوم علو الهمّة

سلسلة قصار الحكم

من مفاهيم سيكولوجية الصورة الذاتية في خطاب الإمام علي (عليه السلام): مفهوم علو الهمّة

4K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 30-11-2020

بقلم: الشيخ مهدي المالكي

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وآله الطيبين الطاهرين.
أما بعد:
قال أمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام):
«قدر الرجل على قدر همّته»[1].
في هذه الكلمة الرائعة – وكل كلماته رائعة بل تتبارى مع بعضها بعضاً في الجمال والروعة – يحدّد (عليه السلام) مفتاحاً آخراً يُعدّ من مفاتيح الحياة الإنسانية الطيبة، فبقدر همّة الرجل ودرجة حماسته (التي توصف بالعلو والسفول وما بينهما من المراتب والدرجات) تكون قيمته وقدره، وتكون طبيعة حياة الإنسان ونوعيتها وشكلها.
و(الهمّة) هي الباعث نحو الفعل والدافع نحوه دفعاً شديداً، والهمّة العالية هي التي تلهب إرادة الإنسان وتقوّي عزيمته نحو فعل ما هو كبيرٌ وذو قيمة وأهميّة ويوصل لله تعالى. وهذه الهمّة تُلحُ إلحاحاً شدياً على صاحبها لإيجاد هذا الفعل في الخارج؛ لإنّ في هذا الفعل وما يُسانخه من الأفعال سرّ نجاح وفلاح الإنسان، وسرّ السعادة الحقيقية، وسرّ التمتّع بتقديرٍ عالٍ للذات وما يترتب على هذا التقدير من ثمراتٍ ومعطياتٍ عظيمة وعميمة.
وسواءً عبّرنا عن هذا المفتاح بـ (الهمّة) أو (الحماسة) فلا فرق من الناحية العملية وإن اختلفت معانيها اللغوية اختلافاً بسيطاً[2]، فالهمّة والحماسة تعطيان نفس المعنى الاصطلاحي الذي عُبّر عنهما بتعبيرات مختلفة تتفق جميعاً في جوهرها وإن اختلفت ألفاظها. فأصل كلمة (ماس) أو (حماسة) هو (Enthusiasm) المُشتقة من اللغة اليونانية من كلمة (Enthusiasms)، التي تعني حرفياً أن يكون الإنسان (ملكاً لله) أو أنّها تعني (الحميّة التي يلهمها الإله). فهي تعني أنّ صاحب الهمّة العالية يكون ذو اعتقادٍ صادقٍ بأنّه عبدٌ مملوكٌ لله تعالى، وأنّه مُلهَمٌ بدرجة كبيرة، وأنه صاحب حميّة ملتهبة نحو القيام بما يُقربه إلى هذا المالك بعد أن هيمنت على نفسه رغبةٌ  كبيرةٌ ومسعى حثيث وسعي دائم للوصول إلى ما وعد الله تعالى أصحاب الهمم العالية من الجنان المعنوية في عوالم الإنسان المختلفة  التي لا منغص لها و لا شبيه بها؛ لأنّهم أيقنوا أنّ الدنيا ليست إلا طريقٍ ومزرعة للآخرة، فلم يجعلوا طلبها منتهى هممهم وغاية سعيهم؛ بل استولت على نفوسهم إرادة الآخرة فملأت وجودهم طاعة ًخالصة ً واعية لربّهم، وخضوعاً وتسليماً مطلقاً لإرادته و أمره ونهيه: 
{وَمَنْ أَرَادَ الْآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا}[3].
وأمّا أصحاب الهمم السفلى والحماسة المسعورة نحو طلب الدنيا ومتعلقاتها وسفاسفها، الذين أضاعوا أوقاتهم وجهودهم وأفنوا أعمارهم وبدّدوا طاقاتهم وإمكاناتهم في سبيل تحصيل المزيد من المقتنيات والمتع الدنيوية الرخيصة، فإنّهم سيظلّون لاهثين متكالبين نحو دنياهم  إلى نهاية أعمارهم دون أن يسدّوا جوع نفوسهم الطامعة الجائعة جوعاً لا يشبعه شيء، فكلـّما حصّلوا على المزيد والمزيد من مطامع نفوسهم ومطالبها التي لا تنتهي ( مال، وظيفة ذات مردود مادي ومعنوي كبير، مكان اجتماعي، شهرة، مساكن فسيحة، أثاث فاخر، سيارات فارهة، أرصدة في البنوك...... إلى آخر قائمة الرغبات الدنيوية) زاد جوعهم و اشتدّ نهمهم إلى ما يلهب هممهم السفلى وحماستهم الحيوانية المسعورة، التي لا تزيد الإنسان إلّا بعداً عن ربّه وخالقه، وقرباً من مصيرٍ سلبي أسود. وانغماساً في جهنم الدنيا قبل جهنم الآخرة:
{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا}[4].
إن الله تعالى لشدة حبّه لعباده وعظم لطفه بهم وتنزيهاً لهم عن الوقوع في مهاوي الرذيلة والانحراف ونقصان تقدير الذات شرّع أحكاماً كثيرة؛ بل كل أحكامه وتشريعاته جاءت لتبعد الإنسان عن الانجرار وراء ما هو وهمي وزائل من المتع الدنيوية التي يمقتها الله تعالى ويمقت من استولت الهمّة في تحصيلها على نفسه وروحه وجعلت منه عبداً لها؛ وفي ذلك يقول الرسول الاكرم (صلى الله عليه وآله):
«إنّ الله تعالى يحبُّ معالي الأمور وأشرافها، ويكره سفاسفها»[5]
فهذه السفاسف والمطالب الوهمية لا يمكن أن تجعل من الإنسان فرداً سعيداً سعادةً حقيقية، ولا يمكن لها إلّا أن ترهق نفسه، وتجعله يعيش تحت وطأة الضغوطات الدنيوية المتتابعة والإخفاقات المتوالية والتسارع المحموم نحو لذائذ وقتية زائلة. بخلاف ما لو كانت همة الإنسان وحماسته عالية فإنها لا توجهه إلّا نحو معالي الأمور وما فيه خير وصلاحه في الدنيا والآخرة، وتدفعه للوصول إلى الأهداف السامية التي تنتج له السعادة الحقيقية والاطمئنان الواقعي والمتعة النقية الطاهرة في الدنيا والآخرة، لأنها تقع تحت جناح الرضا الإلهي، وتجعل من الإنسان سلطاناً وحاكماً على نفسه وشهواتها وملذاتها ودوافعها، بحيث لا تتّجه هذه النفوس إلّا صوب ما يرضي الله تعالى، في الوقت نفسه الذي يشعر فيه صاحبها بالرضا عن هذه النفس والتقدير العالي لها([6]).

الهوامش:
[1] نهج البلاغة / الحكمة 477.
[2] الهمّة: ما هُمّ به من أمر ليُفعل.، الحماسة: الشدّة والشجاعة، تحمّس للأمر اشتدت رغبته فيه.
[3] سورة الإسراء: الآية 19.
[4] سورة الإسراء: الآية 18.
[5] كنز العمّال / 43021
([6]) لمزيد من الاطلاع ينظر: سيكولوجية الصورة الذاتية، للشيخ مهدي المالكي، ط: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة: ص87-90.

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.2791 Seconds