من الفكر الإداري عند الإمام علي عليه السلام: تتبع الحكومة للقضاة

مقالات وبحوث

من الفكر الإداري عند الإمام علي عليه السلام: تتبع الحكومة للقضاة

4K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 01-12-2020

بقلم: م. م. هدى ياسر سعدون

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وآله الطيبين الطاهرين.
أما بعد:
في عهده الشريف لمالك الأشتر رضوان الله عليه يؤصل عليه السلام لمنهاج الحكومة ورأس السلطة فيها آلية تتبع القضاة فيقول:
«ثُمَّ أَكْثِرْ تَعَاهُدَ قَضَائِهِ، وافْسَحْ لَهُ فِي الْبَذْلِ مَا يُزيِلُ عِلَّتَهُ، وَتَقِلُّ مَعَهُ حَاجَتُهُ إِلَى النَّاسِ، وَأَعْطِهِ مِنَ الْمَنْزِلَةِ لَدَيْكَ مَا لاَ يَطْمَعُ فِيهِ غَيْرُهُ مِنْ خَاصَّتِكَ، لِيَأْمَنَ بِذلَكَ اغْتِيَالَ الرِّجَالِ لَهُ عِنْدَكَ. فَانْظُرْ فِي ذلِكَ نَظَراً بِلِيغاً، فَإِنَّ هذَا الدِّينَ قَدْ كَانَ أَسِيراً فِي أَيْدِي الاَْشْرَارِ، يُعْمَلُ فِيهِ بِالْهَوَى، وَتُطْلَبُ بِهِ الدُّنْيَا»([1]).
يشير الإمام عليه السلام بضرورة تتبع القاضي لكي تتوضح لديك إذا كان مقصرًا في عمله، ومن ثم عدم تطبيق أحكام القضاء كون المسائل القضائية في بالغ الأهمية إذا ما طبقت على الناس بصورة صحيحة هذا ما أشار إليه أحد الباحثين بتوضيح معنى «تعاهد قضائه» وتعاهد قضاء القاضي يعني تتبعه بالاستكشاف والتعرف، وهذا التعاهد يشير بنحو عام لمسألة (المراقبة) التي تمثل أحد أعمدة الإدارة أو أية عملية تنظيمية معينة([2]).
وأما قوله:
«وافْسَحْ لَهُ فِي الْبَذْلِ مَا يُزيِلُ عِلَّتَهُ، وَتَقِلُّ مَعَهُ حَاجَتُهُ إِلَى النَّاسِ»([3]).
نلاحظ أن الإمامg ينبه على الإسراع في إعطاء مرتب القاضي لقاء عمله، هو بذلك قد أكد أهم ناحية من نواحي القضاء وترقيته، وذلك بترقية حال القاضي وتأمين متطلبات العيش له ويكون ذلك بفرض العطاء الواسع حتى يكون ما يأخذه كافيًا لمعيشته وحفظ منزلته ويتعفف به عن الرشاوى([4]). على حين يقول:
«وَأَعْطِهِ مِنَ الْمَنْزِلَةِ لَدَيْكَ مَا لاَ يَطْمَعُ فِيهِ غَيْرُهُ مِنْ خَاصَّتِكَ، لِيَأْمَنَ بِذلَكَ اغْتِيَالَ الرِّجَالِ لَهُ عِنْدَكَ...»([5]).
وقد أوضح ذلك الأستاذ جورج جرداق بقوله: إن الإمام عليه السلام أول من فصل بين السلطة القضائية والسلطة التنفيذية؛ إذ كانت السلطات الثلاثة (القضائية – التنفيذية – التشريعية) موحدة غير منفصلة في عهد الإمام لذا خطا خطوة مبدئية لإكساب القضاة حصانة، وتأمينهم من عقاب السلطة وبهذا يكون علي عليه السلام قد قضى على السبب الأول من أسباب انحراف القضاء، إذ خطا هذه الخطوة المبدئية نحو فصل القضاة عن السلطة التنفيذية؛ كي لا يتأثر القضاة بأصحابها([6]). فيما قال الأستاذ الفكيكي: «الغرض المهم من استقلال المحاكم الذي توخاه الإمام في وصيته لعامله هو لم يثق من عدالة الأحكام وصيانة الحقوق؛ لأن المحاكم لا تكون مرجعًا موثوقًا به عند الناس إلا إذا كانت مصونة من التأثير والنفوذ»([7]).
أما قوله:
«فَإِنَّ هذَا الدِّينَ قَدْ كَانَ أَسِيراً فِي أَيْدِي الاَْشْرَارِ، يُعْمَلُ فِيهِ بِالْهَوَى، وَتُطْلَبُ بِهِ الدُّنْيَا»([8]).

يقول المعتزلي: هذه اشارة الى قضاة عثمان وحكامه، وأنهم لم يكونوا يقضون بالحق عنده، بل بالهوى لطلب الدنيا([9]).
ثم يقول عليه السلام في خطبة أخرى حيث توضح فيها هذا المعنى (صفة من يتصدى للحكم بين الأمة وليس لذلك بأهل):
«إِنَّ أَبْغَضَ الخَلائِقِ إِلَى اللهِ تعالى رَجُلانِ: رَجُلٌ وَكَلَهُ اللهُ إِلَى نَفْسِهِ، فَهُوَ جَائِرٌ عَنْ قَصْدِ السَّبِيلِ، مَشْغُوفٌ بِكَلاَمِ بِدْعَة، وَدُعَاءِ ضَلاَلَة، فَهُوَ فِتْنَةٌ لَمِنِ افْتَتَنَ بِهِ، ضَالٌّ عَنْ هَدْي مَنْ كَانَ قَبْلَهُ، مُضِلُّ لِمَنِ اقْتَدَى بِهِ في حَيَاتِهِ وَبَعْدَ وَفَاتِهِ، حَمَّالٌ خَطَايَا غَيْرِهِ، رَهْنٌ بِخَطِيئَتِه، وَرَجُلٌ قَمَشَ جَهْلاً، مُوضِعٌ في جُهَّالِ الاُْمَّةِ، غادر في أَغْبَاشِ الفِتْنَةِ، عَمٍ بِمَا في عَقْدِ الهُدْنَةِ، قَدْ سَمَّاهُ أَشْبَاهُ النَّاسِ عَالمِاً وَلَيْسَ بِهِ، بَكَّرَ فَاسْتَكْثَرَ مِنْ جَمْع، مَا قَلَّ مِنْهُ خَيْرٌ مِمَّا كَثُرَ، حَتَّى إِذَا ارْتَوَى مِنْ مَاء آجِن، وَأكْثَر مِن غَيْرِ طَائِل، جَلَسَ بَيْنَ النَّاسِ قَاضِياً ضَامِناً لِتَخْلِيصِ مَا التَبَسَ عَلَى غيْرِهِ، فَإِنْ نَزَلَتْ بِهِ إِحْدَى المُبْهَمَاتِ هَيَّأَ لَهَا حَشْواً رَثّاً مِنْ رَأْيِهِ، ثُمَّ قَطَعَ بِهِ، فَهُوَ مِنْ لَبْسِ الشُّبُهَاتِ في مِثْلِ نَسْجِ العَنْكَبُوتِ: لاَ يَدْرِي أَصَابَ أَمْ أَخْطَأَ، إنْ أَصَابَ خَافَ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَخْطَأَ، وَإِنْ أَخْطَأَ رَجَا أَنْ يَكُونَ قَدْ أَصَابَ جَاهِلٌ خَبَّاطُ جَهلات، عَاشٍ رَكَّابُ عَشَوَات، لَمْ يَعَضَّ عَلَى العِلْمِ بِضِرْس قَاطِع، يُذرِي الرِّوَايَاتِ إذْراءَ الرِّيحِ الهَشِيمَ، لاَ مَلِيٌ ـ وَاللهِ ـ بِإِصْدَارِ مَا وَرَدَ عَلَيْهِ، وَلاَ هُوَ أَهْلٌ لِما فُوّضَ إليه»([10]).
ويقول ابن أبي الحديد وقوله «يذري الروايات» فكأنه يقول: يلقي الروايات كما يلقي الإنسان الشيء على الأرض([11]).
ثم يتابع الإمام عليه السلام:
«لاَ يَحْسَبُ العِلْمَ في شيْء مِمَّا أَنْكَرَهُ، وَلاَ يَرَى أَنَّ مِنْ وَرَاءِ مَا بَلَغَ منه مَذْهَباً لِغَيْرهِ، وَإِنْ أَظْلَمَ عَلَيْهِ أَمْرٌ اكْتَتَمَ بِهِ لِمَا يَعْلَمُ مِنْ جَهْلِ نَفْسِهِ، تَصْرُخُ مِنْ جَوْرِ قَضَائِهِ الدِّمَاءُ، وَتَعَجُّ مِنْهُ المَوَارِيثُ، إِلَى اللهِ أَشْكُو مِنْ مَعْشَر يَعِيشُونَ جُهَّالاً، وَيَمُوتُونَ ضُلاَّلاً»([12]).

نلاحظ أن الإمام عليه السلام يؤكد ضرورة وضع الشخص المناسب في المكان المناسب له، وأن يكون كما وصف الإمام عليه السلام جاهلًا مضلًا لا يدري ما يحكم أكان صائبًا أو خاطئًا ومن ثم تصرخ الناس من جور قضائه، لذلك يحث الإمام عليه السلام على تفادي هذا المصير السيئ كي يرتقي بسلطة القضاء. على حين يُوصي القاضي بقوله:
«وَأَلْزِمِ الْحَقَّ مَنْ لَزِمَهُ مِنَ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ، وَكُنْ فِي ذلِكَ صَابِراً مُحْتَسِباً، وَاقِعاً ذلِكَ مِنْ قَرَابَتِكَ وخَاصَّتِكَ حَيْثُ وَقَعَ، وَابْتَغِ عَاقِبَتَهُ بِمَا يَثْقُلُ عَلَيْكَ مِنْهُ، فَإِنَّ مَغَبَّةَ ذلِكَ مَحْمُودَةٌ»([13]).
لابد للناس – وهذا أكبر همهم – أن تكون لديهم ثقة بالقضاء والقاضي أو الحاكم قد يكون أحدهم قريبًا أو صديقًا له سواء من بعيد أو قريب.
«هَلَكَ مَنِ ادَّعى، وَخَابَ مَنِ افْتَرَى، مَنْ أَبْدَى صَفْحَتَهُ لِلْحَقِّ هَلَكَ، وَكَفَى بِالْمَرْءِ جَهْلاً أَلاَّ يَعْرِفَ قَدْرَهُ...» ([14]).
وقد قارن الأستاذ الفكيكي ما جاء من الصفات التي اشترطها الإمام عليه السلام في القاضي وبذلك يقول: «إن الخصائص والسمات الواجب توافرها في القاضي والاتصاف بها مقارنة بنحو كبير لأصول المحاكمات الحقوقية المعاصرة التي تحتم على القضاة مراعاتها والالتزام بها في إدارة المحاكمة»([15])([16]).

الهوامش:
([1]) جاء في الحديث «لا يقضي القاضي وهو غضبان» و«من ابتلي بالقضاء بين المسلمين فليعدل بينهم في لحظهِ وإشارته ومجلسه ومقعده»، يُنظر: ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 17/45.
([2]) الزبيدي، عبد الرضا عبد الامير، في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي عليه السلام، مكتبة فدك، (قم-2005)، ص25.
([3]) ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، كتاب (53)، 17/44.
([4]) الفكيكي، الراعي والرعية، ص122.
([5]) ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، كتاب (53)، 17/44.
([6]) الإمام علي عليه السلام صوت العدالة الإنسانية، 2/261.
([7]) الراعي والرعية، ص125.
([8]) ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، كتاب (53)، 17/44.
([9]) المصدر نفسه، 17/45.
([10]) ابن أبي الحديد، خطبة (17)، 1/242.
([11]) ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 1/243.
([12]) المصدر نفسه، 1/243.
([13]) ابن أبي الحديد، كتاب (53)،17/46.
([14]) المصدر نفسه، خطبة (16)،1/235.
([15]) الراعي والرعية، ص152.
([16]) لمزيد من الاطلاع ينظر: الفكر الإداري عند الامام علي عليه السلام في نهج البلاغة، هدى ياسر سعدون، طبعة مؤسسة علوم نهج البلاغة، العتبة الحسينية المقدسة: ص192-196.

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.2695 Seconds