بقلم: أ. د. ختام راهي الحسناوي
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام عل خير الخلق أجمعين محد وآله الطيبين الطاهرين.
أما بعد:
تولى معاوية حكم الدولة الإسلامية سنة 41هـ–60هـ/661م–679م، وعلى الرغم من شهادة الإمام علي سنة 40هـ/660م، وغيابه عن ميدان المنافسة العملية مع خصمه اللدود معاوية، إلاّ أن الأخير استمر في حربه ضد ذكرى الإمام علي ومناقبه وفضائله التي يبدو أنها لم تكن تثير إحساس معاوية بدونيته فحسب، وإنما كانت تشكل مؤشراً دائماً على بقاء معاوية في دائرة اللاشرعية، وتسلبه التأييد الحقيقي المبدئي الواعي، وهذا ما يترتب عليه نتائج خطيرة تعصف بمحاولات معاوية المستمرة لتركيز سيطرة وسلطة بني أمية واستمرار الملك العضوض في نسله.
استدعى كل ذلك أن يؤسس معاوية–ومن تولى بعده من بني أمية–لحربٍ فكرية تستمر أجيالاً حتى لا يُذكر لعليّ فضل[1] وقد تنوعت صور هذه الحرب وأسلحتها، وفيما يلي استعراض لأبرز الوسائل والأساليب المتبعة فيها:
• الأسلوب الأول: ترسيخ سياسة سب الإمام علي (عليه السلام)، وجعلها سياسة رسمية للدولة الأموية.
فعلى الرغم من وجود ظاهرة السب، وممارسة معاوية وأتباعه لذلك قبل توليه الحكم–كما قدمنا–إلاّ أننا نستطيع أن نعدّها ظاهرة محدودة لم تتخذ جانب التبني التام والواضح لها؛ لعدم قيام دولة أموية لها سياستها الخاصة، ولها عُمالها وولاتها النافذين على الأقاليم آنذاك، بيد أن معاوية وبمجرد وصوله إلى سدة الحكم سنة 41هـ/661م) أعلن هذه السياسة بوصفها سياسة رسمية للدولة[2] وعمّم تلك السياسة على جميع الولايات الإسلامية وحمل الناس على تطبيقها وممارستها طوعاً وقسراً، فكتب ((نسخة واحدة إلى عماله بعد عام الجماعة[3]: أن برئت الذمة ممن روى شيئاً من فضل أبي تراب وأهل بيته، فقامت الخطباء في كُلّ كورة، وعلى كُلّ منبر، يلعنون علياً ويبرؤون منه، ويقعون فيه...))[4].
ويبدو أن اتخاذ المنابر والخطب كمكان وزمان للسب ظاهرة هدفها خلق جو إعلامي واسع لهذه البدعة، وهي خطوة عملية لتطبيق السب في أوسع مجالاته وإعطاء السب الصفة الشرعية من خلال تضمينه المواسم العبادية والدينية التي لها وقعها في نفوس المسلمين، ومن ثم فهي خطوة عملية لتشريع سب الإمام علي (عليه السلام) كون الارتكاز الذهني لوظيفة المنبر والخطبة هو أن وظيفتها دينية، ومن ثمّ استغلوا الوظيفة الدينية في تحقيق مبتغاهم وهدفهم في النيل من الإمام علي (عليه السلام)، محاولةً لجعل السب مما تُبنى عليه اعتقادات المسلمين[5].
ومما يلفت النظر أنه على الرغم من تأكيد المصادر الإسلامية على قيام معاوية بتعميم لعن الإمام علي في مستهل حكمه[6] إلاّ أننا نجد من خالف هذه المسلمات التاريخية بين الباحثين المحدثين، انسياقاً وراء الميول والعواطف، وجهلاً بما نقلته المصادر المتنوعة–صحاح، سنن، تاريخ، فضائل، لغة، أدب–التي لم تخضع لزمان واحد أو مكان محدد، وعلى تنوع انتماءاتها المذهبية[7].
كان المجال الأرحب لتطبيق سياسة السب هو مراسيم الدولة الرسمية المتمثلة بعدة أمور أهمها: الوثائق الرسمية للدولة لاسيما تلك الخاصة بعهود التولية، ومراسلات الحاكم أو الوالي إلى عماله، وكذلك في المجالس، وعلى المنابر، وفي أعطاف الخطب وغير ذلك[8].
فقد كان معاوية يؤكد على الولاة في عهود توليتهم الرسمية على عدة أمور أهمها شتم الإمام علي ولعنه، والنيل والبراءة منه، إذ كان يعده خطاً أحمر لا ينبغي تجاوزه، بحيث يمكن الاعتماد على الوالي وفطنته في الأمور الأخرى، أما هذا الأمر فلا ينبغي الاجتهاد أو التصرف به[9]، وهذا ما نفهمه مما ورد في عهد تولية المغيرة بن شعبة[10] على الكوفة سنة 41هـ/661م، إذ كتب فيه: ((وقد أردتُ إيصائك بأشياء كثيرة أنا تاركها اعتماداً على بصرك بما يرضيني ويُسعد سلطاني ويُصلح به رعيتي ولست تاركاً إيصائك بخصلةٍ: لا تتحمّ (لا تمتنع) عن شتم علي وذمه))[11].[12].
الهوامش:
[1] روى الجاحظ أن قوماً من بني أمية قالوا لمعاوية: ((يا أمير المؤمنين، إنك قد بلغت ما أمّلت، فلو كففت عن لعن هذا الرجل! فقال: لا والله حتى يربو عليه الصغير، ويهرم عليه الكبير، ولا يذكر له ذاكرٌ فضلاً!)). ابن أبي الحديد، شرح النهج، 4/45.
[2] ينظر: مناقشة آراء المصادر التاريخية في بداية سب الإمام علي رسمياً، وترجيح سنة 41هـ/661م بدايةً لذلك على وفق القرائن التاريخية عند الجابري، السياسة الأموية، ص51–55.
[3] هو عام 41هـ/661م الذي عقد فيه ما سُمي (بالصلح) بين الإمام الحسنj، ومعاوية. وقال عنه الجاحظ: ((... وما كان عام جماعة، بل كان عام فرقة وقهر وجبرية وغلبة، والعام الذي تحولت فيه الإمامة ملكاً كسروياً، والخلافة منصباً قيصرياً...)). رسائل الجاحظ (رسالة في النابتة) 2/11.
[4] ابن أبي الحديد، شرح النهج، 11/36.
[5] الجابري، السياسة الأموية، ص72.
[6] وقد ورد ذلك بعشرات الروايات: وأن أول عمل عمله معاوية بعد أن استولى على الحكم أن كتب لعماله في جميع الآفاق بأن يلعنوا علياً على المنابر، ففعلوا، وبالغوا في السب خوفاً من بني أمية. ينظر:
ابن قيس، كتاب سليم، ص314؛ ابن عبد ربه، العقد الفريد، 4/159؛ الحاكم النيسابوري، المستدرك، 3/323، 334؛ ابن الأثير، أسد الغابة، 1/239؛ ابن حجر، الإصابة، 1/77؛ السيوطي، تاريخ الخلفاء، ص272.
[7] كفانا عدد من المتتبعين مؤونة التوسع في ذلك ومناقشة هذه الأباطيل التي وردت لدى كُلٍ من: عبد الحليم عويس، وأحمد شلبي، وإبراهيم علي شعوط، والصلابي، ومحب الدين الخطيب، ومحمود شاكر.
للإطلاع على ذلك ينظر: الجابري، السياسة الأموية، ص55، ص57؛ الخرسان، موسوعة عبد الله بن عباس، 5/158–199؛ البدري، الحسين في مواجهة الضلال الأموي، ص63–71؛ العتابي، اللعن والسب بين الحقائق والادعاءات، ص228–230.
[8] ينظر: ابن سعد، الطبقات، 6/304؛ البلاذري، أنساب الأشراف، 2/380، ص406؛ اليعقوبي، تاريخ، 2/199؛ الطبري، تاريخ، 5/169؛ الجابري، السياسة الأموية، ص70–71.
[9] الجابري، السياسة الأموية، ص70.
[10] الثقفي، أسلم عام الخندق وقدم مهاجراً، وقيل أن أول مشاهده الحديبية، وكان يُعد من دعاة العرب، تولى الكوفة زمن عمر بن الخطاب، وأخذ جانب معاوية في حربه مع الإمام علي فولاه الكوفة بعد عام 41هـ/661م، وتوفي سنة 50هـ/670م وهو أميرها.
ابن قتيبة، المعارف، ص167؛ ابن عبد البر، الاستيعاب، 3/167.
[11] الطبري، تاريخ، 5/169.
[12] لمزيد من الاطلاع ينظر: رواية فضائل الإمام علي عليه السلام والعوامل المؤثرة فيها (المراحل والتحديات)، الدكتورة ختام راهي الحسناوي، ص 73-76.