بقلم: السيد نبيل الحسني الكربلائي
الحمد لله على ما أنعم وله الشكر بما ألهم والثناء بما قدّم من عموم نِعَمٍ ابتدأها وسبوغ آلاء أسداها والصلاة والسلام على حبيبه المنتجب ورسوله المصطفى أبي القاسم محمد وعلى آله أساس الدين وعماد اليقين.
وبعد:
اَشتملت وصية أمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام) في أمواله على جملة من العنوانات الشرعية والعقدية، فضلاً عن اَكتنازها للعديد من المصاديق والمفاهيم الأخلاقية والاجتماعية والتربوية والاقتصادية وغيرها، وهو ما سنتناوله عِبر جملة من المقالات، وهي على النحو الآتي:
ينقلنا مولى الموحدين وأمير المؤمنين (عليه السلام)، أي: منتج النص الى هذا الاستحضار الرتبي للقلب في التعامل مع أبني فاطمة (عليهم السلام) وهو رسول الله (صلى الله عليه وآله).
فإن هذا التعامل يقود الى تكريم حرمة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وتشريف وصلته كما سيرد في المبحث القادم.
ومن ثم لابد من الوقوف عند بعض المسائل للوصول الى مقاصدية هذا التكريم لحرمة رسول الله (صلى الله عليه وآله) عِبْرَ أبني فاطمة (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين).
المسألة الاولى: حدود حرمة النبي (صلى الله عليه وآله) ومفهومها.
لعل أول ما يتبادر الى الذهن المتلقي هو: الوقوف عند معرفة حرمة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فما هي (الحرمة)؛ وما هي حدود هذه الحرمة، وهل تحدث القرآن عن هذه الحرمة فقدم لنا مفهوماً عنها.
فنقول:
أولاً: الحرمة في اللغة .
يمكن القول في معرفة مفهوم الحرمة من خلال المعاجم اللغوية:
إنّه يرتكز على المنع من الإباحة في الفعل والقول وتقيدهما بقيود خاصة وضعتها الشريعة.
وذلك أن (الحرمة ما لا يحل لك اَنتهاكه، وتقول فلان له حرمة، أي: تحرّم منا بصحبة أو بحق)[1].
ويعد اَنتهاك الحرمة مقيداً بـ (تناولها بما لا يحل)[2].
ولذا:
نجد العرب قد خصصت ثلاثة أشهر حرمت فيها القتال فسمتها (الأشهر الحرم) وهي ما نص عليها القرآن الكريم في قوله تعالى:
﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾[3]
فكانوا يُعَظّمون هذه الأشهر ويقعدون فيها عن القتال لحفظ الأنفس والمال فكانت هذه الأشهر وتحريمها مقدمة لتعظيم حرمة الكعبة والوصول إليها فكانت حرمة الأشهر مكتسبة من حرمة البيت الحرام.
ومن هنا:
اَتخذ اليوم الذي اَستحلت فيه العرب حرمة هذه الأشهر بـ (يوم الفجّار)، أي: اَنتهكت هذه الحرمة فأحلت لنفسها الخروج من هذا القيد، أي حرمة القتال وتحويله الى الحلّية فكان الفاعلون المنتهكون لهذه الحرمة: فجّاراً بهذا المفهوم.
ثانياً: مفهوم حرمة النبي (صلى الله عليه وآله) في القرآن .
يظهر النص الشريف قصدية منتج النص (عليه السلام) في إظهار كيفية التأدب بمحضر رسول الله (صلى الله عليه وآله) عند مخاطبته؛ وهنا نورد جملة من الآيات التي تظهر مفهوم حرمة النبي (صلى الله عليه وآله)، منها:
1- في بيان الوحي لتوقير النبي (صلى الله عليه وآله) والدفاع عنه.
قال عزّ وجل:
﴿لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾[4].
فَـالآية المباركة تخاطب الناس بالإيمان بالله ورسوله (صلى الله عليه وآله) وبتعزيره وتوقيره، والتعزير (أصله العزر، وهو المنع والزجر، يقال: عزره إذا رفعه، وهو من الأسماء الأضداد ومنه سميَّ النصر تعزيراً، لأنه يدفع العدو ويمنعه)[5].
ويراد به هنا: الخطاب للمؤمنين بمنع العدو ودفعه عن النبي (صلى الله عليه وآله) أو بالقول والدفاع عنه، ودفع كل ما من شأنه أن يؤدي الى التقليل من شأنه وتعظيمه وتوقيره، وهو بذلك يحدد مفهوماً للحرمة النبوية ضمن عنوان (التعزير والتوقير).
2- في بيان الوحي لحدود الآدب في مناداته(صلى الله عليه وآله).
وقد جاء ذلك في قوله تعالى:
﴿لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾[6].
والآية ترسم للمسلمين حدود التعامل في الحديث مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) (فلا يعامل بالإسترسال والمباسطة كما يعامل الأكفاء بعضهم بعضاً) فينادى بإسمه الصريح (محمد) (صلى الله عليه وآله)، أو بكنيته، فيدعى (يا أبا القاسم) كما ينادي بعظهم بعضاً فيجر ذلك الى عدم الحرمة والهيبة والتوقير، بل إذا أرادوا أن ينادوه فيقولون: يا رسول الله(صلى الله عليه وآله).
وإن من أجمل وأبلغ ما جسد العمل بهذه الآية وإظهار قصديتها في بيان حرمة رسول الله (صلى الله عليه وآله) في حدود الحديث معه، ما أخرجه الحافظ ابن المغازلي وغيره، عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام)، عن أبائه (عليهم السلام) عن الإمام الحسين الشهيد (عليه السلام)، عن أمه فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله)، قالت:
«لما نزلت على النبي (صلى الله عليه وآله):
﴿لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا....﴾، قالت فاطمة:
فتهيبت النبي (صلى الله عليه وآله) أن أقول له: يا أبه !؛ فجعلت أقول له: يا رسول الله.
فأقبل عليَّ فقال لي:
يا بنية لم تنزل فيك ولا في أهلك من قبل، أنتِ مني وأنا منكِ، وإنما نزلت في أهل الجفاء والبذخ والكبر، قولي: يا أبه، فإنه أحب للقلب وأرضى للرب.
ثم قبَّل النبي جبهتي ومسحني بريقه فما أحتجت الى طيب بعده)[7].
3- رفع الصوت بمحضره (صلى الله عليه وآله) يحبط العمل.
هذه الخاصية المرتبطة أيضاً في حدود الحديث مع رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فتظهر خطورة تجاوز تلك الحدود الكاشفة عن إظهار حرمته (صلى الله عليه وآله).
كما جاء في قوله تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ﴾[8].
فإذا كان رفع الصوت بمحضره يحبط العمل فكيف بالتعدي على أهل بيته وإيذاءه (صلى الله عليه وآله)؟!
ولذا:
فإن القرآن الكريم يستعرض جملة من الآيات التي ترشد الناس الى بيان مقام رسول الله (صلى الله عليه وآله) عند الله تعالى وتعظيمه وإظهار حرمته، وأن أجلى مصاديق هذه الحرمة هي في التعامل مع أهل بيته وعترته (صلوات الله وسلامه عليهم اجمعين).
ومن ثم فإن تعظيمهم وإجلالهم إنما هو تكريم لحرمة من ينتسبون إليه ويتسمون به فعرفوا بين الناس بآل محمد (صلى الله عليه وآله)، وهو ما قصده الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) في هذا النص، أي: «تكريما لحرمته» وأن هذه الحرمة لا يحدّها زمن معين فحرمته (صلى الله عليه وآله) حياً كحرمته بعد رحيله (صلى الله عليه وآله) وهو ما سنعرض له في المسألة القادمة.[9].
الهوامش:
[1] كتاب العين للفراهيدي: ج3 ص222.
[2] الصحاح للجوهري: ج4 ص1613.
[3] سورة التوبة، الآية (36).
[4] سورة الفتح، الآية (10).
[5] دراسات في الولاية الفقهية للشيخ المنتظري: ج2 ص317.
[6] سورة النور، الآية (63).
[7] مناقب علي بن ابي طالب (عليه السلام): ص285.
[8] سورة الحجرات، الآية (2).
([9]) لمزيد من الاطلاع ينظر: فاطمة في نهج البلاغة، للسيد نبيل الحسني: ط: العتبة الحسينية المقدسة مؤسسة علوم نهج البلاغة. ج5/ ص 7-9.