من الأمثال العربية في نهج البلاغة: قوله (عليه السلام) ((لَوْ كَانَ يُطَاعُ لَقَصِير أَمْرٍ))

مقالات وبحوث

من الأمثال العربية في نهج البلاغة: قوله (عليه السلام) ((لَوْ كَانَ يُطَاعُ لَقَصِير أَمْرٍ))

5K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 24-06-2021

بقلم: الدكتور حسن طاهر ملحم/ الجامعة العربية

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من تبوأ من الفصاحة ذروتها وأصبح بذلك أفصح العرب أبي القاسم محمد صلى الله عليه وآله الطيبين الطاهرين لا سيما الإمام علي عليه السلام أمير البيان..

وبعد:

استعمل الإمام علي عليه السلام المثل العربي في مواطن كثيرة قفت عليها في كتاب نهج البلاغة وهي على النحو الآتي:

قوله عليه السلام: (لَوْ كَانَ يُطَاعُ لَقَصِير أَمْرٍ)[1]

وأصل المثل (لا يطاع لقصير أمر)[2]

جاء استعمال أمير المؤمنين (عليه السلام) للمثل المذكور في خطبه بعد التحكيم حيث كانت الأحداث مضطربة أدت في آخر الأمر إلى (إن علياً ومعاوية إتفقا على أن يكون مجتمع الحكمين بدومة الجندل[3] وهو المنتصف بين العراق والشام،  ووجه علي مع أبي موسى شريح بن هاني في أربعة آلاف من خاصته وصير عبد الله بن عباس على صلاتهم،  وبعث معاوية مع عمرو بن العاص أبا الأعور السلمي في مثل ذلك من أهل الشام[4]،  وأورد ابن مزاحم[5] رواية أخرى ذكر فيها أن علياً بعث أربعمائة رجل وبعث عليهم شريح بن هاني الحارثي وبعث عبد الله بن عباس يصلي بهم،  واختلف المؤرخون في الموقع بأنه دومة الجندل بأذرح أو بدومنة الجندل أو بأذرح)[6] والصحيح بأذرح كما ورد عند البلاذري[7]: وكان تفرق الناس والحكمين عن أذرح في شعبان،  فقال كعب بن جميل التغلبي[8]:

كأن أبــــا موسى عشـية أذرح                    يضيف بلقمــان الحكــيم يواربـــه

ولما التقيـــنا في شرات محـمـــد                    علت بابن هند في قريش مضاربـه

وانطلت خدعة عمرو بن العاص على أبي موسى الأشعري وخدع صاحبه وأثبت عمرو بن العاص معاوية بعد أن صعد أبو موسى المنبر فبدأ قبل عمرو بن العاص لم يحتط لقول ابن عباس وتحذيره له بأن عمراً رجل غدرٍ قدمه ليتكلم قبلك[9] .

وحمل شريح بن هاني على عمرو بالسوط،  وحجز الناس بينهما وانسلّ أبو موسى فركب راحلته وهرب حتى لحق بمكة،  وكان أبو موسى يقول: (لقد حذرني ابن عباس غدر عمرو)[10]، وجاء عند بعض المؤرخين ذكر قول أبي موسى: حذرني ابن عباس غدرة الفاسق ولكنني اطمأنيت إليه.

ثم انصرف عمرو وأهل الشام إلى معاوية وسلموا عليه بالخلافة ورجع ابن عباس وشريح بن هاني إلى علي[11].

فلما سمع الإمام علي (عليه السلام) بالخبر قام خطيباً وقال (الحمد لله وإن أتى الدهر بالخطب الفادح والحدث الجلل وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له... أما بعد فإن معصية الناصح الشفيق العالم المجرب تورث الحسرة وتعقب الندامة.... وقد كنت أمرتكم في هذه الحكومة أمري... إلى قوله لو كان يطاع لقصير أمر،  فأبيتم عليّ إباء المخالفين الجفاة)[12].

قال ابن أبي الحديد [13]: (وهذه الألفاظ من خطبة خطب بها (عليه السلام) بعد خديعة ابن أبي العاص لأبي موسى وافتراقهما وقبل وقفة النهروان).

هذا ما كان في سبب الخطاب،  أما ما استشهد به الإمام علي (عليه السلام) من المثل المذكور فهو قد وظف مثل قصير[14] إلى قضية التحكيم التي أشار إلى أصحابه بعدم الرضوخ لها لأنه المجرب العالم والشفيق الناصح لهم ولكنهم لم يرعووا،  فكان ما كان منهم فندم وتحسر وجاء المثل على لسانه بصيغة التمني لا بصيغة النفي التي جاء بها على لسان قصير فهو (عليه السلام) تمنى لو أن قومه أطاعوه وأخذوا بما أمرهم به لكانوا هم السباقين إلى المآثر ولكنهم أبَوا إباء المخالفين الجفاة حتى ظن البعض إن الإمام (عليه السلام) شك بنفسه بقوله لهم (حتى ارتاب الناصح بنصحه)[15] من شدة ما أفرطوا به في المخالفة له (عليه السلام)،  وهذا ما استعمله (عليه السلام) في باب من أبواب البيان والمبالغة، فحاشاه أن يشك بنفسه ما حدث في زمن الإمام علي (عليه السلام) مطابق ومشابه لحادثة جذيمة الأبرش ونصح مولاه قصير إياه والقصة مدونة في كتب الأمثال[16] والحديث في ابنة الزبّاء،  أنها امرأة من الروم وأمها من العمالقة،  فكانت تتكلم العربية وكانت ملكة على جزيرة قنسرين.. وكان جذيمة الأبرش رجل من الأزد وكان ملكاً على الحيرة وما حولها وكان له مولى يقال له قصير كان لبيباً عاقلاً،  ويقال في بعض الأمثال أنه هو أباه وكان جذيمة قد قتل أباها ولكنه بعد ذلك طلب منها الزواج وجمع أصحابه وشاورهم فزينوها له ولكن قصير نهاه عنها مرة أخرى وحينما رآه قصير قد عزم على الأمر قال: (لا يطاع لقصير رأي) ومضى إليها في ناس كثير فأعدت له العدة ثم غدرت به وقتلته.
والقصة من أحفل القصص في الأمثال التي قيلت خلال حوادثها وقد بلغت واحداً وعشرين مثلاً بين قصير وجذيمة والزبّاء[17].[18].

الهوامش:
[1]- نهج البلاغة: خطبة (35)،  ابن أبي الحديد: شرح النهج1/183
[2]- المفضل الضبي: أمثال العرب،  ص45،  العسكري: جمهرة الأمثال 2/392
[3]- دومة الجندل هو منتصف المسافة بين العراق والشام،  أنظر: البكري: معجم ما استعجم 2/564،  ياقوت الحموي: معجم البلدان 2/554.
[4]- الدنيوري: الأخبار الطوال ص293.
[5]- وقعة صفين: ص537.
[6]- ينظر: الطبري: تاريخ الامم والملوك، 4/49،  ابن الأثير: الكامل 3/321
[7]- أنساب الأشراف، ص345.
[8]- كعب بن جميل التغلبي: كان مع معاوية بعيداً عن علي،   ينظر: ابن عبد ربه: العقد الفريد 4/111
[9]- أنظر: الدنيوري: الأخبار الطوال 298،  ابن مزاحم: وقعة صفين ص545 المسعودي: مروج الذهب 2/399
[10]- الدنيوري: الأخبار الطوال ص298.
[11]- الطبري: تاريخ الأمم والملوك 3/282.
[12]- نهج البلاغة: خطبة (35).
[13]- شرح نهج البلاغة، 1/183.
[14]- قصير: مولى جذيمة بن الأبرش ملك الحيرة وما حولها،  أنظر الأغاني 5/251؛  مروج الذهب 3/190،  العسكري: جمهرة الأمثال 1/232
[15]- شرح النهج 1/200
[16]- ينظر: الضبي: أمثال العرب ص144 وما بعدها مفصلاً،  الزمخشري: المستقصى من أمثال العرب 1/183،  البكري: فصل المقال. مثل رقم (110)،  وفي كتب التاريخ ينظر:  أبو الفرج الأصفهاني: الأغاني 15/251؛  المسعودي: مروج الذهب 3/190
[17]- ينظر الضبي: أمثال العرب ص144 وما بعدها مفصلاً القصة كاملة بأمثالها.
[18]لمزيد من الاطلاع ينظر: الأمثال العربية ومدلولاتها التاريخية في كتاب نهج البلاغة، للدكتور حسن طاهر ملحم، ط1، مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة، ص 103 –107.

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.3982 Seconds