من مقاصدية وصية الإمام علي (عليه السلام) في أمواله خامسًا المقاصدية في جعل التولية لأبني فاطمة (عليهم السلام) تكريمًا لحرمة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) / الحلقة الرابعة: تحصين الأذهان من استحلال ما لا يحل

مقالات وبحوث

من مقاصدية وصية الإمام علي (عليه السلام) في أمواله خامسًا المقاصدية في جعل التولية لأبني فاطمة (عليهم السلام) تكريمًا لحرمة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) / الحلقة الرابعة: تحصين الأذهان من استحلال ما لا يحل

3K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 06-07-2021

بقلم السيد نبيل الحسني الكربلائي

الحمد لله على ما أنعم وله الشكر بما ألهم والثناء بما قدّم من عموم نِعَمٍ ابتدأها وسبوغ آلاء أسداها والصلاة والسلام على حبيبه المنتجب ورسوله المصطفى أبي القاسم محمد وعلى آله أساس الدين وعماد اليقين.

وبعد:
اشتملت وصية أمير المؤمنين الإمام علي عليه السلام في أمواله على جملة من العنوانات الشرعية والعقدية، فضلاً عن اكتنازها للعديد من المصاديق والمفاهيم الأخلاقية والاجتماعية والتربوية والاقتصادية وغيرها، وهو ما ستعرض له عبر جملة من المقالات، وهي على النحو الآتي:
المسألة الثالثة: تحصين الأذهان من استحلال ما لا يحل
قد ينصرف ذهن المتلقي للنص بأن القصد في قول منتج النص (عليه السلام) في تكريم حرمة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) منحصر في دوام هذه الحرمة بعد وفاته (صلى الله عليه وآله) غير متعدية الى لوازم هذه الحرمة.
بمعنى:
قد يفهم المتلقي ان هذه الحرمة مستمرة بعد وفاة رسول الله، لكن ما علاقة ابني فاطمة (عليهم السلام) بالأمر؟
وجوابه:
إنّ منتج النص أراد تحصين الاذهان من استحلال ما لا يحل عند فصل ابني فاطمة (عليهم السلام) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيصبح التعامل معهما على قاعدة انهما ابناء علي بن ابي طالب (عليهم السلام)، ومن ثم تحجيم حرمتهما وشأنيتهما المتصلة برسول الله (صلى الله عليه وآله).
فضلا عن ان نفوس القوم قد مُلأت بالضغائن من علي بن ابي طالب (عليه السلام) قاتل الآباء والاخوان والازواج في بدر وحنين والاحزاب وغيرها من حركة النبوة والرسالة.
بل هكذا: سعى اصحاب السقيفة الى تحويل الاذهان وسلب نفاسة الحسن والحسين من كونهما ابناء رسول الله (صلى الله عليه وآله) الى ابناء علي (عليهم السلام)، ومن ثم يهون على الناس الاستخفاف بمنزلتهما والمساس بحرمتهما والتعرض لهما والتعدي عليهما كما ثبت ذلك في تاريخ المسلمين.
فكيف تم قتل الامام الحسن (عليه السلام) مسموماً؛ وكيف ذبح الامام الحسين (عليه السلام) واهل بيته مهضوماً ومظلوماً.

ولذا:
لم يقتصر منتج النص على هذا الفعل فقط في جعل امر التولية على الاموال لابني فاطمة (عليهم السلام) وانما سبقه افعال اخرى رافقت مسيرته في الحياة موضحاً خلال هذه السيرة الحياتية انهما ابنا رسول الله (صلى الله عليه وآله) موجهاً للناس الى هذه القصدية مستشعراً لهم بدوام وجود رسول الله (صلى الله عليه وآله) ودوام حرمته فيهما، ولذا كان تعامله معهما على هذا النحو، فمما جاء في ذلك من الاعمال ما يلي:
1- بعد مَقْدمِه (عليه السلام) من صفين الى الكوفة لقيه عبد الله بن وديعة الانصاري، فَدَنا منه وسأله:
«ما سمعت الناس يقولون في امرنا هذا»؟.
قال منهم المعجب به، ومنهم الكاره له، والناس كما قال الله تعالى:
﴿وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ﴾.
فقال (عليه السلام):
«فما يقول ذوو الرأي»؟.
قال: يقولون أن عليا كان له جمع عظيم ففرقه، وحصن حصين فهدمه، فحتى متى يبني مثل ما قد هدم، وحتى متى يجمع مثل ما قد فرق؛ فلو أنه كان مضى بمن أطاعه إذا عصاه من عصاه، فقاتل حتى يظهره الله أو يهلك، إذن كان ذلك هو الحزم؛ فقال علي: أنا هدمت أم هم هدموا، أم أنا فرقت أم هم فرقوا[1]؟
وأما قولهم لو أنه مضى بمن أطاعه إذ عصاه من عصاه فقاتل حتى يظفر أو يهلك، إذن كان ذلك هو الحزم فوالله ما غَبِيَ عني ذلك الرأي[2]، وإن كنت لسخيا بنفسي عن الدنيا[3]، طيب النفس بالموت؛ ولقد هممت بالإقدام [على القوم]، فنظرت إلى هذين [قد ابتدراني - يعني الحسن والحسين - ونظرت إلى هذين[4]] قد استقدماني - [ يعني عبد الله بن جعفر ومحمد بن علي] - فعلمت أن هذين إن هلكا انقطع نسل محمد من هذه الأمة، فكرهت ذلك؛ وأشفقت على هذين أن يهلكا، وقد علمت[5] أن لولا مكاني لم يستقدما - يعني محمد بن علي وعبد الله بن جعفر -[6]، وأيم الله لئن لقيتهم بعد يومي لألقينهم[7] وليس هما معي في عسكر ولا دار)[8].
2- بعث معاوية برجل الى علي (عليه السلام) متغفلاً ليسأله عن مسائل كان ملك الروم قد بعثها اليه ليسأله عنها فعجز معاوية عن الجواب، فأختار احد رجاله ليطرحها على الامام علي (عليه السلام)، فلما حضر عنده عرفه امير المؤمنين (عليه السلام) فاستنطقه فقال الرجل معترفاً بحقيقة مجيئه (أنا رجل بعثني إليك معاوية متغفلاً لك أسألك عن شيء بعث فيه ابن الأصفر[9] وقال له: إن كنت أنت أحق بهذا الامر والخليفة بعد محمد فأجبني عما أسألك فإنك إذا فعلت ذلك اتبعتك وأبعث إليك بالجائزة فلم يكن عنده جواب، وقد أقلقه ذلك فبعثني إليك لأسألك عنها فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): قاتل الله ابن آكلة الأكباد ما أضله وأعماه ومن معه والله لقد أعتق جارية فما أحسن أن يتروج بها حكم الله بيني وبين هذه الأمة، قطعوا رحمي، وأضاعوا أيامي[10]، ودفعوا حقي وصغروا عظيم منزلتي وأجمعوا على منازعتي، علي بالحسن والحسين ومحمد فاحضروا فقال: يا شامي هذان ابنا رسول الله وهذا ابني فسأل أيهم أحببت)[11].
3- وعن ابن عباس قال: (لما كان يوم من أيام صفين دعا علي (عليه السلام) ابنه محمد ابن الحنفية، فقال له[12]:
 شد على الميمنة، فحمل محمد مع[13] أصحابه، فكشف ميمنة عسكر معاوية[14]. ثم رجع وقد جرح، فقال:
العطش العطش، فقام إليه أبوه (عليه السلام)[15] فسقاه جرعة من الماء، ثم صب الماء بين درعه وجلده، فرأيت علق الدم يخرج من حلق الدرع، ثم أمهله ساعة[16]؛ ثم قال: يا بني، شد على القلب، فشد عليهم فكشفهم[17]، ثم رجع وقد أثقلته الجراحات وهو يبكي، فقام إليه أبوه (عليه السلام) فقبل[18] ما بين عينيه، وقال: سررتني فداك أبوك، لقد سررتني - والله - يا بني بجهادك بين يدي[19]، فما يبكيك؟ أفرح أم جزع؟ فقال: كيف لا أبكي وقد عرضتني للموت ثلاث مرات فسلمني الله تعالى، وكلما رجعت إليك لتمهلني عن الحرب[20] فما أمهلتني، وهذان أخواي الحسن والحسين (عليهما السلام) ما تأمرهما بشي؟ فقبل (عليه السلام) رأسه وقال:
 يا بني، أنت ابني، وهذان ابنا[21] رسول الله (صلى الله عليه وآله) أفلا أصونهما عن القتل[22]؟ قال: بلى، يا أبتاه، جعلني الله فداك وفداهما[23][24].

وغيرها من الموافق والافعال التي تظهر منهج منتج النص (عليه السلام) وقصديته في التعامل مع الحسن والحسين (عليهما السلام) حتى آخر لحظات حياته المقدسة بعد ان ضربه ابن ملجم (عليه لعنة الله) في مسجد الكوفة؛ وفيما اوصى يقول الامام الباقر (عليه السلام):
ثم ان علياً حضره الذي حضره فدعا ولده وكانوا اثنى عشر ذكراً فقال لهم:
«يا بَنِيِ ان الله عز وجل قد ابى الا ان يجعل في سنة من يعقوب وإن يعقوب دعا ولده وكانوا اثنا عشر ذكرا، فأخبرهم بصاحبهم، ألا وإني أخبركم بصاحبكم، إلا إن هذين ابنا رسول الله (صلى الله عليه وآله) الحسن والحسين (عليهما السلام) فاسمعوا لهما وأطيعوا، ووازروهما فإني قد ائتمنتهما على ما ائتمنني عليه رسول الله (صلى الله عليه وآله) مما ائتمنه الله عليه من خلقه ومن غيبه ومن دينه الذي ارتضاه لنفسه، فأوجب الله لهما من علي (عليه السلام) ما أوجب لعلي (عليه السلام) من رسول الله (صلى الله عليه وآله) فلم يكن لاحد منهما فضل على صاحبه إلا بكبره، وإن الحسين كان إذ حضر الحسن لم ينطق في ذلك المجلس حتى يقوم)[25].
وهذا يدعو الى امرين اساسيين هما:
1- وجوب حرمة رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيهما.
2- ان ابني فاطمة (عليها السلام) هما جزء لا يتجزأ من هذه الحرمة لما لهما من رحم ماسّة برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

وإن السياق العام للنص يحرك الضمير الجمعي للأمة في حرمة الحسن والحسين (عليهما السلام) وذلك بحسب نظرية الافعال الكلامية التي سنختم بها المبحث القادم[26].

الهوامش:
[1]       في الأصل: «تفرقوا» والوجه ما أثبت من الطبري.
[2]       غبي عنه: لم يفطن له، وفي الأصل: «ما غنى عن ذلك الرأي» وفي الطبري: «غبي عن رأيي ذلك» ووجههما ما أثبت.
[3]       في الأصل: «لسخى النفس بالدنيا» صوابه من الطبري.
[4]       التكملة من الطبري.
[5]       في الأصل: «ولو علمت» صوابه من الطبري.
[6]       في الأصل: «يعني بذلك ابنيه الحسن والحسين» صوابه من الطبري.
[7]       في الأصل: «لقيتهم» وأثبت ما في الطبري.
[8]       وقعة صفين للمنقري: ص529-530.
[9]       أي ملك الروم وإنما سمى الروم بنو الأصفر لان أباهم الأول كان أصفر اللون.
[10]      «قطعوا رحمي» أي لم يراعوا الرحم التي بيني وبين رسول الله (صلى الله عليه وآله) أو بيني وبينهم فالمراد به القريش؛ وقوله «أضاعوا أيامي» أي ما صدر مني من الغزوات وغيرها مما أيد الله به الدين ونصر به المسلمين فكثيرا ما يطلق الأيام ويراد بها الوقائع المشهورة الواقعة فيها كما قاله العلامة المجلسي (رحمه الله) في البحار.
[11]      الخصال للصدوق: ص440؛ تحف العقول لأبن شعبة الحراني: ص228.
[12]      في (ب) و (ع): ابنه محمدا، فقال.
[13]      في (ف) و (ب): فحمل مع.
[14]      معاوية بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، مؤسس الدولة الأموية في الشام، ولد بمكة وأسلم يوم فتحها، مات سنة (60ه‍) في دمشق؛ (تاريخ ابن الأثير: 4/ 2، تاريخ الطبري: 6/ 180، البدء والتاريخ: 6/ 5، الاعلام: 7/ 261-262).
[15]      في (ب) و (ع): فقال له: العطش، فقام إليه (عليه السلام).
[16]      قوله: (فرأيت علق الدم... ساعة) ليس في (ف).
[17]      في (ب) و (ع): فقام إليه ففعل مثل الأول، ثم قال: شد في القلب، فكشفهم.
[18]      في (ب) و (ع): فقام إليه فقبل.
[19]      في (ب) و (ع): وقال: فداك.
[20]      عبارة (بجهادك بين يدي) ليس في (ب) و (ع).
[21]      في (ف): أبناء.
[22]      عبارة: (عن القتل) ليس في (ب) و (ع)، وفيهما: (يا أباه) بدل (يا أبتاه).
[23]      أخرجه في البحار: 42/ 105 عن بعض مؤلفات أصحابنا، عن ابن عباس، باختلاف يسير.
[24]      ذوب النضار لأبن نما الحلي: ص56-57.
[25]      الكافي للكليني: ج1.
([26]) لمزيد من الاطلاع ينظر: فاطمة في نهج البلاغة، للسيد نبيل الحسني: ط: العتبة الحسينية المقدسة مؤسسة علوم نهج البلاغة. ج5/ ص 19-25.

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.2438 Seconds