بقلم: الدكتورة سحر ناجي المشهدي
الحمد لله الأول بل الإنشاء، والآخر بعد فناء الأشياء، أحمده استتمامًا لنعمته، واستعصاماً من معصيته، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على من اصطفى من الخلق أجمعين سيدنا ونبينا محمد وآل الطاهرين..
وبعد:
تولَّى الإمامُ عليُ بن أبي طالبٍ (عليه السلام) الخِلافة في عام (35هـ)، فوجدَ نفسَّه أمامَ مجتمعٍ قائمٍ على التفاوت بين الطَّبقات الاجتماعية، طبقة غنية ثرية تملك المَّال والأرض، والتِّجارة، وهم الكثرة الكاثرة من الأمويين، وطبقة وهم الأكثر يعيشون الفقر، ولا ينالون من أموال الدَّولة إلاَّ النَزر اليسير.
أتى (عليه السلام) بفسلفةٍ جديدةٍ أساسها المَحبة والعَدالة والحُرية وإنصافُ المظلومين، فأوجدَ تخطيطاً اقتصاديا منظماً يقومُ على المساواة فيما أفاءَ اللهُ به على المسلمين (فالخُمسُ، الزَّكاة، الصَّدقات، والإرث) حقوقٌ معلومةٌ لابدَّ من العَدالة فيها، وأدركَ الإمامُ (عليه السلام) انَّ الحلَ الوحيد لجميع المشكلاتِ الاقتصاديةِ يكونُ في تطبيقِ أحكام الدِّين ؛ لأنَّه الطَّاقة الرُّوحية التي تُعوِضُ الإنسانَ ؛ لذلك قال تعالى: ﴿ مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾[1].
فتميزَ موقفه بالشِّدة والصَّرامة على مَن نهبَ البلاد، وأخذَ أموالً المسلمين بغيرِ وجهِ حقٍ، فخيراتُ البلادِ تعودُ للدَّولةِ، وجميعُ مَن يقيمُ على البلادِ الإسلاميةِ.
ومِن مميزاتِ النظامِ الاقتصادي الإسلامي الذي راّه الإمام (عليه السلام)[2].
1- إنَّه يرتبط بالعقيدة، وهي مصدر التموين الروحي.
2- يرتبط بمفاهيم الاسلام عن الكون والحياة كـ(المفهوم الإسلامي عن الملكية الخاصة والربح لما للملكية من حق رعاية يتضمن المسؤولية
3- مايثبته الإسلام من عواطف وأحاسيس تؤدي وظيفة مهمة في تكييف الحياة الاقتصادية
4- الغاء رأس المال الرَبوي واعتماد التوازن الاجتماعي
5- ترتيب أحكام الملكية الخاصة في الاقتصاد الاسلامي
6- الارتباط بين الاقتصاد والتشريع الجنائي الإسلامي[3].
ويعد الاقتصاد المحرك لأنشطة الحياة ؛ لذا اتسم عهد الإمام علي بن ابي طالب (عليه السلام) بالمثالية والدِّقة في التقويم العملي وفقا لمعايير صارمة وبالخصوص بالنسبة لطبقة أصحاب رؤوس الأموال[4].
فنظامُ المَسَّاواة في العطاءِ بين الناسِ هو النظام المُتبع ؛ لأنَّ عدمَ تطبيق هذا النظام يؤدي الى ظهور تمايزٍ طبقيٍ، ويقصدُ بالعَطاءِ (نظامُ قِسمة الأموال العامة جنودًا كانوا أم عامة) [5].
وقد شملت الأوضاع الاقتصادية في عهد الإمام (عليه السلام) مايأتي:
1- الاستثمار: يحتاج إلى تخطيط مسبق من (تنبؤ وخطط وإسهام ورؤوس أموال متوافرة).
2- الاستهلاك: فهنالك فرق بين الاستهلاك والتبذير، والإسراف والبخل والتقتير، فالاستهلاك وترشيده يتم بوعي، فلا يدخل ضمن التقتير أو البخل، وبذلك فإن ترك الإسراف سيؤدي بالنتيجة الى الاقتصاد.
3- المنافسة والاحتكار: ويتبين ذلك بكتابه للصحابي الجليل كميل بن زياد (رضوان الله عليه) قائلاً: « يَا كُمَيْل بْن زِياد، هَلَكَ خُزَّانُ الاْمْوَالِ وَهُمْ أَحْيَاءٌ، وَالْعَلَمَاءُ بَاقُونَ مَا بَقِيَ الدَّهْرُ: أَعْيَانُهُمْ مَفْقُودَةٌ، أَمْثَالُهُمْ فِي الْقُلُوبِ مَوْجُودَةٌ »[6]. ومعنى هلاكهم الاختلال في الأسلوب الإدِّخاري المُتَبَع لديهم.
4- الإشباع: من مسببات المشكلة الاقتصادية وعدم التوازن. فظهور التضخم أو العجز ينعكس على المجتمع ويتضح ذلك في قوله (عليه السلام): « منهومان لايشبعان: طالب علم وطالب دنيا»[7].
لقد عالج الإمام (عليه السلام) بفكره الثاقب مشاكل الاقتصاد في نهج البلاغة، ومشكلة التمايز الطبقي التي كانت سائدة في عهد عمر وعثمان، ولاسيما في عهده الى الوالي الصحابي مالك الأشتر (رضوان الله عليه) فالثورة التي أحدثها الإمام (عليه السلام) لم يستوعبها غيره، فكان المنطلق الأول لجميع مبادئها، وذلك حين ولاَّه مصر، وتوزيع الإعانات لذوي الدخل المحدود من بيت مال المسلمين الذين أوصى بهم خيرا إذ قال: « ثُمَّ اللهَ اللهَ فِي الطَّبَقَةِ السُّفْلَى مِنَ الَّذِينَ لاَ حِيلَةَ لَهُمْ وَالْمَسَاكِين وَالْـمُحْتَاجِينَ وَأَهْلِ الْبُؤْسَى وَالزَّمْنَى، فإِنَّ فِي هذِهِ الطَّبَقَةِ قَانِعاً وَمُعْتَرّاً، وَاحْفَظْ لله مَا اسْتَحْفَظَكَ مِنْ حَقِّهِ فِيهِمْ، وَاجْعَلْ لَهُمْ قِسمْاً مِنْ بَيْتِ مَالِكَ، وَقِسماً مِنْ غَلاَّتِ صَوَافِي الاْسْلاَمِ فِي كُلِّ بَلَد، فإِنَّ لِلاْقْصَى مِنْهُمْ مِثْلَ الَّذِي لِلاْدْنَى،...»[8].
وسيكون حديثنا في الفصل الأول (التجارة والألفاظ التي تتعلق بها في نهج البلاغة، إذ كثرت المصطلحات الاقتصادية في عهد الإمام (عليه السلام) التي تدُّل على التجارة ؛ لكننَّا في البدء سنعرض لمعنى التِّجارة (لغةً واصطلاحاً)، ومفهومها عند الإمام (عليه السلام)...[9].
الهوامش:
[1] المؤمن / 40.
[2] ظ: علم الاقتصاد في نهج البلاغة: 18.
[3] ظ: اقتصادنا: 296 ومابعدها.
[4] ظ: السياسة المالية في عهد الإمام علي (عليه السلام): 37.
[5] ظ: المصدر نفسه.
[6] نهج البلاغة: الحكم القصار: 147، 375.
[7] الحكم القصار: 457، 418.
[8] ك 53، 324.
[9]لمزيد من الاطلاع ينظر: المعجم الاقتصادي في نهج البلاغة، للدكتورة سحر ناجي المشهدي، ط1، مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة، ص 33 –37.