من سياسة السب التي اتبعتها السلطة الأمويّة: الحلقة الخامسة: مواجهة سياسة السب (أم سلمة أنموذجًا)

مقالات وبحوث

من سياسة السب التي اتبعتها السلطة الأمويّة: الحلقة الخامسة: مواجهة سياسة السب (أم سلمة أنموذجًا)

3K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 21-10-2021

بقلم: أ.د ختام الحسناوي

وبعد:
فعلى الرغم من سياسة الدولة الشديدة، وتبني ممثليها من ولاة وقادة وشخصيات عامة لسياسة السب، إلاّ أن المجتمع الإسلامي لم يستسلم لذلك، بل رفض كثير من أبنائه هذه السياسة وأخذ على عاتقه التصدي لها عبر الأجيال المتعاقبة، ولم يقتصر الأمر على فئة الموالين للإمام علي وأهل بيته، وإنما شمل ذلك الصحابة والتابعين من علماء وفقهاء وأُدباء وعامة الناس، واتخذ هذا التصدي أشكالاً مختلفة منها[1]:
1.    الربط بين سبّ الإمام علي (عليه السلام) وسبّ الله ورسوله (صلى الله عليه وآله).
2.    الإكثار من رواية فضائل الإمام علي (عليه السلام) ومناقبه.
3.    الردّ على مَنْ يسبّ الإمام بالسب المعاكس مباشرة أو بالتورية.
4.    المحاججة والتعريض بمَنْ يسب الإمام عليّاً (عليه السلام).
5.    تحشيد الناس ضد سياسة السبّ.
6.    حصب السابّ وضربه.
هذا ناهيك عما قدّمه محبو الإمام علي من دماء سخية في هذا السبيل بدءاً من حجر بن عدي وأصحابه مروراً بـ ميثم التمار، وجويرية بن مسهر، ورشيد الهجري وغيرهم[2].
وسنقتصر على توضيح الشكل الأول والثاني من أشكال التصدي لسياسة السبّ لصلتها بموضوع البحث.

1- ربط سبّ الإمام علي بسبّ الله ورسوله (صلى الله عليه وآله).

لقد حفلت كتب الصحاح والحديث المعتبرة بالأحاديث النبوية الصحيحة التي تفرض حبّ علي (عليه السلام) وولايته، وتنهى عن إيذائه وبغضه، وتصف فاعل ذلك بالنفاق والحرب لله ورسوله (صلى الله عليه وآله)[3]، وهذا يعني تصدي عدد معتد به من الصحابة والتابعين لنقل ذلك ونشره، وتعميمه في وجه السياسة الأموية القاضية بسبّه والبراءة منه وتشويه مكانته، وفيما يلي ذكر لبعض ما روي من ذلك: فقد تبنت أم سلمة[4] معارضة سياسة السب في أول انبثاق لها، وكتبت إلى معاوية كتاباً أوضحت فيه خطورة هذه السياسة وجاء فيه: ((إنكم تلعنون الله ورسوله على منابركم، وذلك أنكم تلعنون علي بن أبي طالب ومَنْ أحبه وأنا أشهد أن الله أحبّه ورسوله، فلم يلتفت إلى كلامها))[5].
ولما استمر الأمويون في لعن الإمام، وتحريض الناس على البراءة منه، راحت أم سلمة تنكر على مَنْ تلتقيه من الناس إتّباع هذه السياسة الأموية، خاصة وأن الإمام علياً (عليه السلام) على تلك المنزلة الكريمة من الله ورسوله (صلى الله عليه وآله) فروي عنها قولها لأبي عبد الله الجدلي[6]: ((أيُسب رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيكم وأنتم أحياء؟ قلت: معاذ الله. قالت: أليسوا يسبّون علياً ومَنْ أحبّه؟!!!))[7].
وفي رواية قالت: ((سمعتُ رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: مَنْ سبَّ علياً فقد سبّني))[8].
ونُقل عنها مثل ذلك مع مَنْ زارها من الكوفيين[9]، وروى الطبراني عن فطر بن خليفة[10] عن أبي الطفيل[11]، قال: سمعت أم سلمة تقول: ((أشهد أني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: مَنْ أحب علياً فقد أحبني، ومَنْ أحبني فقد أحب الله، ومن أبغض علياً فقد أبغضني، ومَنْ أبغضني فقد أبغض الله))[12].
وروي عن سعد بن أبي وقاص[13] قوله: ((كنتُ جالساً في المسجد أنا ورجلان معي، فنلنا من عليّ، فأقبل رسول الله (صلى الله عليه وآله) غضبان يعرف في وجهه الغضب، فتعوذت بالله من غضبه، فقال: مالكم ولي؟ مَنْ آذى علياً فقد آذاني))[14].
ولعل هذا الموقف وغيره من المواقف التي سمع فيها سعدٌ فضائل علي على لسان رسول الله (صلى الله عليه وآله) هو الذي دفعه إلى تحذير الناس من سبّه، فقال لمن زاره منهم: ((... لا تسبه، فإن وضع المنشار على مفرقي على أن أسب علياً ما سببته بعدما سمعت من رسول الله (صلى الله عليه وآله) ما سمعت))[15].
وروى أحمد بن حنبل: عن عمرو بن شاس الأسلمي[16] قال: ((... خرجت مع علي إلى اليمن، فجفاني في سفري ذلك، حتى وجدت عليه في نفسي! فلما قدمتُ أظهرتُ شكايته في المسجد، حتى بلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فدخلتُ المسجد ذات غداةٍ ورسول الله في ناسٍ من أصحابه، فلما رآني أحدّني عينيه، يقول: حدَّدَ إليّ النظر حتى إذا جلستُ، قال: يا عمرو، أما والله لقد آذيتني!، قلت: أعوذ بالله أن أوذيك يا رسول الله، قال: بلى، مَنْ آذى علياً فقد آذاني))[17].
وانسجاماً مع هذه المواقف المعارضة لسياسة السب سجّل عبد الله بن عباس[18] إنكاره ورفضه لسياسة الدولة الأموية وإجراءاتها؛ فلما بلغه أن قوماً يقعون في عليّ قال لابنه خذ بيدي فذهب إليهم فقال: ((أيكم الساب الله؟ فقالوا: سبحان الله! مَنْ سبّ الله فقد أشرك، فقال: أيكم السابّ رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ فقالوا: سبحان الله! مَنْ سب رسول الله فقد كفر، فقال: أيكم الساب لعليّ؟ قالوا: قد كان ذلك، قال: فأشهد لقد سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: مَنْ سبّ علياً فقد سبني، ومَنْ سبني فقد سبّ الله، ومن سب الله كبّه الله على وجهه في النار...))[19].
2- الإكثار من رواية فضائل الإمام علي ومناقبه.
اتخذ كثير من الصحابة والتابعين من التذكير بفضائل الإمام علي ومناقبه سبيلاً على إنكار سياسة السب الأموية، وركزوا على التصريح بما نزل فيه من القرآن الكريم، ومكانته ومنزلته عند رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وما خصّه به من أحاديث التكريم والتقديم، فضلاً عن مزاياه الشخصية والذاتية حتى قال كثير من العلماء: لم يرد في حق أحد من الصحابة بالأسانيد الحسان أكثر مما جاء في علي[20] ويعلل ابن حجر ذلك بالقول: فلما ((وقع ذلك الاختلاف والخروج عليه نشر مَنْ سمع من الصحابة تلك الفضائل وبثها نصحاً للأمة أيضاً، ثم لما اشتد الخطب واشتغلت طائفةٌ من بني أمية بتنقيصه وسبّه على المنابر ووافقهم الخوارج لعنهم الله بل قالوا بكفره اشتغلت جهابذة الحفاظ من أهل السُنة ببث فضائله حتى كثرت نصحاً للأمة ونصرة للحق))[21].
ويبدو أن اتساع هذا النشاط الروائي كان في أعقاب تصدع وحدة الدولة الأموية وغياب السلطة المركزية لبني أمية التي كانت تُلاحق المحدثين الصادقين، فلم تسترجع سيطرتها كاملة إلاّ بعد خمس وعشرين سنة من قتل الحسين، لينطلق خلال هذه الفترة بقية الصحابة والتابعين من شيعة علي وغيرهم في المدينة ومكة والكوفة والبصرة والشام وخراسان وغيرها ينشرون حديث النبي (صلى الله عليه وآله) في الإمام علي وأهل بيته كُل حسب استطاعته، وبقدر ما تسمح له ظروفه[22].
وسنُعرج على نماذج من روايات الفضائل عن بعض الصحابة–حصراً–لنستشف منها بعض الأبعاد المهمة، فقد روي عن أم سلمة أحاديث لرسول الله (صلى الله عليه وآله) في مناقب الإمام علي ومنها:
- ((سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول لعلي (عليه السلام): لا يحبك إلاّ مؤمن، ولا يبغضك إلاّ منافق))[23].
- وعنها: ((والذي أحلف به إن كان علي لأقرب الناس عهداً برسول الله صلّى الله عليه وسلم. قالت: عُدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم غداة بعد غداة، يقول: جاء علي؟ مراراً... فجاء... فأكبّ عليه عليّ فجعل يُسارُّه ويناجيه، ثم قُبض رسول الله صلّى الله عليه وسلم من يومه ذلك، فكان أقرب الناس به عهداً))[24].
- وعنها أنها قالت: ((خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله) وجه هذا المسجد فقال: ألا لا يحلّ هذا المسجد لجنب ولا لحائض إلاّ لرسول الله وعليّ وفاطمة والحسن والحسين، ألا قد بيّنت لكم الأسماء أن لا تضلّوا))[25].
- وعنها قالت: ((أخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله) بيد علي (عليه السلام) بغدير خم، فرفعها حتى رأينا بياض إبطيه، فقال: مَنْ كنت مولاه فعليّ مولاه، ثم قال: أيها الناس أني مخلف فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي ولن يتفرقا حتى يردا عليّ الحوض))

الهوامش:
[1] للتفاصيل ينظر: الجابري، السياسة الأموية، ص88–109.
[2] ينظر لتراجمهم وما جرى عليهم، الكشي، رجال، ص43–44؛ الشيخ المفيد، الإرشاد، 1/322–327.
[3] ينظر: ابن حنبل، فضائل أمير المؤمنين، ص147، ص197–198، ص255، ص280، ص321؛ البخاري، الصحيح، ص658–659؛ الترمذي، السنن، ص978–980؛ البدري، الحسين في مواجهة الضلال الأموي، ص61.
[4] هند بنت أبي أمية، تزوجها أبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد، وتوفي عنها على إثر جرح أصابه في معركة أحد، ثم تزوجها النبي (صلى الله عليه وآله) سنة 4هـ/625م، توفيت في المدينة سنة 59هـ/678م ولها أربع وثمانون سنة، ودفنت في البقيع.
ابن سعد، الطبقات، 8/86–96.
[5] ابن عبد ربه؛ العقد الفريد، 4/159؛ الجابري، السياسة الأموية، ص96.
[6] شيعي، قال الجوزجاني: كان صاحب راية المختار، وقد وثقه أحمد [ابن حنبل]. الذهبي، ميزان الاعتدال، 7/390.
[7] البلاذري، أنساب الأشراف، 2/406؛ الحاكم النيسابوري، المستدرك، 3/334.
[8] ابن حنبل، فضائل أمير المؤمنين، ص194؛ الحاكم النيسابوري، المستدرك، 3/334.
[9] ابن عقدة، فضائل أمير المؤمنين، ص33–34؛ ابن عساكر، ترجمة الإمام علي، 2/171.
[10] أبو بكر الكوفي الحناط سمع أبا الطفيل عامراً، وأبا وائل، ومجاهداً، وروى عنه أبو أسامة، ويحيى ابن آدم وقبيصة وغيرهم، وثقه عدد من أصحاب الحديث منهم: أحمد بن حنبل، وابن سعد، وأبو حاتم، والنسائي، وترك آخرون الرواية عنه لتشيعه. توفي سنة 153هـ/770م أو 155هـ/771م. الذهبي، ميزان الاعتدال، 5/441–442.
[11] عامر بن واثلة الليثي، روى عن النبي (صلى الله عليه وآله) وعن عدة من الصحابة، وكان الخوارج يذمونه لاتصاله بعلي وقوله بفضله وفضل أهل بيته، توفي سنة مئة أو بعدها. ابن حجر، تهذيب التهذيب، 2/272.
[12] المعجم الكبير، 23/380.
[13] القرشي الزهري من السابقين للإسلام، شهد بدراً والمشاهد مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) وكان أحد الفرسان في مغازيه، قاتل الفرس في القادسية، وبنى الكوفة ووليها مرتين، كان ممن اعتزل الإمام علياً إبان خلافته. توفي في المدينة سنة 54هـ/673م أو 55هـ/674 أو 58هـ/677م.
ابن قتيبة، المعارف، ص140–144؛ ابن عبد البر، الاستيعاب، 2/18–27.
[14] الخوارزمي، المناقب، ص149.
[15] النسائي، الخصائص، ص147.
[16] ويقال له الأسدي له صحبة ورواية، شهد الحديبية، وهو ممن اشتهر بالبأس والنجدة، وكان شاعراً مطبوعاً.
ابن عبد البر، الاستيعاب، 2/526–530؛ ابن حجر، الاصابة، 2/542–543.
[17] فضائل أمير المؤمنين، ص174؛ ابن عبد البر، الاستيعاب، 2/530؛ ابن حجر، الاصابة، 2/543.
[18] ابن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف القرشي الهاشمي، ولد قبل الهجرة بثلاث سنين، وكانوا يسمونه البحر والحبر لعلمه، برع في العلم والفقه والتفسير، توفي في الطائف سنة 68هـ/687م أو سنة 71هـ/690م.
ابن عبد البر، الاستيعاب، 2/351–357؛ ابن الأثير، أسد الغابة، 3/291–295.
[19] الخوارزمي، المناقب، ص137.
[20] ابن حجر، فتح الباري، 7/434؛ ابن حجر الهيثمي، الصواعق المحرقة، ص118–119.
[21] الصواعق المحرقة، ص119.
[22] البدري، الحسين في مواجهة الضلال الأموي، ص505–506. وينظر: للتطورات السياسية التي طالت الدولة الأموية من سنة (61–75هـ/680–694م) من خروج عبد الله بن الزبير على الدولة، واستقلاله في مكة والمدينة والعراق، وخروج المختار الثقفي سنة 66هـ–67هـ/685–686م)، واختلاف أهل الشام على رايتين راية تدعو لابن الزبير وراية تدعو لمروان بن الحكم، واقتتال أهل خراسان لسنين ثم بيعتهم لعبد الملك وغيرها من تطورات. اليعقوبي، تاريخ، 2/220–227، 3/2–8، 12–20؛ الطبري، تاريخ، 5/324–392، 6/5–180.
[23] ابن حنبل، فضائل أمير المؤمنين، ص263.
[24] ابن حنبل، فضائل أمير المؤمنين، ص323؛ الحاكم النيسابوري، المستدرك، 3/349؛ النسائي، الخصائص، ص214.
[25] البيهقي، سنن، 7/56.

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.2645 Seconds