بقلم: الدكتور سحر ناجي المشهدي
الحمد لله الأول بل الإنشاء، والآخر بعد فناء الأشياء، أحمده استتمامًا لنعمته، واستعصاماً من معصيته، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على من اصطفى من الخلق أجمعين سيدنا ونبينا محمد وآل الطاهرين..
وبعد:
تكرر لفظ (الثقل) في نهج البلاغة في تسعٍ وثلاثين موضعًا ليدل على المعنى الحقيقي المادي ويعني المَتاع الثقيل، كقوله في الخطب المشتملة على الملاحم: «لَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى ضِلِّيل قَدْ نَعَقَ بِالشَّامِ، وَفَحَصَ بِرَايَاتِهَ فِي ضَوَاحِي كُوفَانَ، فإِذَا فَغَرَتْ فَاغِرَتُهُ، وَاشْتَدَّتْ شَكِيمَتُهُ، وَثَقُلَتْ فِي الاْرْضِ وَطْأَتُهُ، عَضَّتِ الْفِتْنَةُ أَبْنَاءَهَا بِأَنْيَابِهَا، وَمَاجَتِ الْحَرْبُ بِأَمْوَاجِهَا، وَبَدَا مِنَ الاْيامِ كُلُوحُهَا، وَمِنَ اللَّيَالِي كُدُوحُهَا»[1].
فشبه معاوية وقيل الفتنة وقيل عبد الملك بن مروان بحيوان يعض بأنيابه، والفتنة لا تعض وهو كناية عن (شدة الجور والظلم) أي ضجت من عنفه وجبروته[2].
وقيل أن الضليل: هو السفياني الدّجال، وثقل الوطأة كناية عن شدة بأسه في الأرض على الناس[3].
وجاء (مِثْقال) على زنة (مِفْعال) الآلة التي يُقاس بها، في قوله لما أراده الناس على البيعة عند مقتل عثمان:» عَالِمُ السِّرِّ مِنْ ضَمَائِرِ الْمُضْمِرِينَ، وَنَجْوَى الْمُتَخَافِتِينَ، .... وَحِسِّ كُلِّ حَرَكَة، وَرَجْعِ كُلِّ كَلِمَة، وَتَحْرِيكِ كُلِّ شَفَة، وَمُسْتَقَرِّ كُلِّ نَسَمَة، وَمِثْقَالِ كُلِّ ذَرَّة» [4].
قال تعالى: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾[5]
ومما يخطئ فيه العامة قولهم للدِّينار: مِثقاَل، وإنَّما المِثْقال وزن كلِّ شيءٍ[6].
والمِثْقال في الأصل مقدارٌ من الوزن أي شيء كان قليلاً أم كثيراً، وتجمع المصادر على أنَّ المِثقَالَ هو وزن الدِّينار الذَهبي الذي كان عربُ الجاهلية والعصر النبوي يتداولونه [7].
وجاء الجمع على زنة (أفْعَال) وهو وزن جمع القلة في ذكر المَلاحِم قائلاً: «أَيُّهَا النَّاسُ، أَلْقُوا هذِهِ الاْزِمَّةَ الَّتِي تَحْمِلُ ظُهُورُهَا الاَثْقَالَ مِنْ أيْدِيكُمْ»[8].
قال المجلسي (رحمه الله): أي القوا من ايديكم أزمة الاراء الفاسدة والأعمال الكاسدة التي هي كالنُّوق والمراكب في محل التبعات» وهي أثقال الذنوب والخطايا. ويعني بـ(الأزمة) الفتنة، والأثْقال: كناية عن النهي عن إرتكاب القبح ومايوجب الإثم والعقاب[9].
وشَبـَّه الفتن بالإبل؛ فالظهور (الإبل)، والقاء الأزمة ترك أعمال القبيح، ووجه الشبه بينهما (الثقل الذي كان عليه أصحابه من غدرٍ ومخامرةِ عدوٍ عليه).
والثًقَلُ: رجحان الثقيل. والثًقَل: مَتَاع المسافر وحشمه، وجمعه: أثـْقَال. والأثقال: الآثام، والمِثقال: وزن معلوم قدره. ومِثقَال الشَّيء: ميزانه مِن مِثله[10].
وتدلُّ هذه المادة على مِقدارٍ من الوزن، أي شيء كان من قليل أو كثير، فمعنى مثقالُ ذرةٍ: وزن ذرةٍ. والنَّاس يطلقونه في العُرْفِ على الدِّينار خاصة، وليس كذلك. ومثقالُ الشَّيء في اللغة: ميزانه من مثله، وجمعه مثاقيل، ويُطْلَق على الذَّهب الذي صار زنةه بالمَثاقيِل، وقيل: المثقال وزن قدَره دِرْهَمٌ وثلاثة أسْبَاع الدِّرهم[11].
والثًقَلُ: نقيض الخفًة. الثًقَلُ: مصدر الثًقيل، تقول: ثقل الشيء ثِقَلا وثقالة، فهو ثقيل، والثِّقْلُ: الحِمْل الثقيل وجمعه أثقال[12].
قال الرَّاغب: «الثٍقَلُ والخِفًةَ متقابلان فكل ما يترجح به أو يُقَدًر به يُقَال هو ثقيل وأصله في الأجسام ثم يقال في المعاني نحو: أثقله الغُرْم والوزر [13].
وثَقلُ الشَّيء ثِقلا، وثقل الحمل على ظهره، وأثقله الحَمْلُ، ورَجُلٌ مُثقَل، حَمَل فوقَ طاقتهِ، وحَمَلتْ الدَّابة ُ ثقلها، والدَّوَاب أثقالها أي أحمالها[14].
وردت لفظة (التجارة) في كلام الإمام علي عليه السلام في نهج البلاغة للدلالة على نوعين من أنواع التجارة، وهي:
1) المعنى الحقيقي: هي عملية البيع والشِّراء المعروفة. فجاءت في كلام الإمام (عليه السلام) مفردة (اتَّجَرَ)، فجاء على زنة (افْتعَلَ) الدالة على الكَسْب والاجتهاد والعمل في التّجارة، وذلك في قوله (عليه السلام): «مَنِ اتَّجَرَ بِغَيْرِ فِقْه ارْتَطَمَ فِي الرِّبَا»[15].
والتِّجارة والتَّجر بمعنى واحد، لأنّ مسائل الرِّبا مشتبهة بمسائل البَيع، ولا يفرق بينهما إلاّ الفقيه، حتى العظماء من الفقهاء اشتبه عليهم الأمر[16].
وجاء اسم الفاعل من (تَجِر) معَّرفا بـ(ال) وهو: التّاّجر، إذ ورد قوله في الكتاب السابق نفسه: « وَلِكُلِّ أَمْر عَاقِبَةٌ، سَوْفَ يَأْتيِكَ مَا قُدِّرَ لَكَ، التَّاجِرُ مُخَاطِرٌ»[17].
إذ خصّ الإمام (عليه السلام) هنا التّاجر بالذِّكر، ولم يجعل الصيغة منّكرة لتدلّ على العموم؛ لأنّه يتعجل بإخراج الثّمن ولا يعلم أيعود أم لا؟ فهو مخاطر لا يأمن أن يكون بعض تلك السيئات تحبط أعماله الصالحة، ولا يأمن أن يكون بعض أعماله الصالحة يكفر تلك السيئات، ومبتغى الكلام أنه لا يجوز للمكلف أن يفعل إلاّ الطّاّعة أو المباح[18].
لذا نجد الإمام (عليه السلام) قد عرَّف هذه الصيغة بـ(ال)، إذ خصّ مجموعة معينة من التجار. وجاءَ الجمع منه على زنة (فُعَّال) جمع كثرة من اسم الفاعل (تاجر) معرًفا بـ(ال)، وهذا الوزن دلً على التكثير والمبالغة في التجارة، إذ لم يطلق هذا الجمع على من تاجروا بتجارة واحدة؛ بل لمن كًثُر منهم ذلك، فصّارت التِّجارة حرفة لهم، لأنّ هذا الجمع يُطلَق لتكثير القيام بالفعل لا لتكثير العدد[19]
وقال في خطابه إلى الصحابي مالك الأشْتَر (عليهما السلام): «وَاعْلَمْ أَنَّ الرَّعِيَّةَ طَبَقَاتٌ لاَ يَصْلُحُ بَعْضُهَا إلاَّ بِبَعْض، وَلاَ غِنَى بِبَعْضِهَا عَنْ بَعْض: فَمِنْهَا جُنُودُ اللهِ، مِنْهَا كُتَّابُ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ، وَمِنْهَا قُضَاةُ الْعَدْلِ، وَمِنهَا عُمَّالُ الاْنْصَافِ وَالرِّفْقِ، وَمِنْهَا أَهْلُ الْجِزْيَةِ وَالْخَراجِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَمُسْلِمَةِ النَّاسِ، وَمِنْهَا التُّجَّارُ وَأَهْلُ الصِّنَاعَاتِ»[20]، فقسَّم الرَّعية على طبقاتٍ منهم: الجنود، والكتَّاب، والقُضَاة، والعُمَّال، وأربابُ الجِّزية من أهلِ الذِّمة، وأربابُ الخّراج من المسلمين، ومنهم التّجار، ومنهم أرباب الصِّناعات، وذوو الحَاجة والمسكنة، والخَراج الذي يُصرَف للجُندِ والقُضاة والعُمَّال والكُّتاب ولابدَّ لهؤلاءِ جميعاً من التّجار ؛ لأنّ البيع والشراء لاغناءَ عنه[21].
وقال: « وَلاَ قِوَامَ لَهُمْ جَمِيعاً إِلاَّ بِالتُّجَّارِ وَذَوِي الصِّنَاعَاتِ، فِيَما يَجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ مِنْ مَرَافِقِهِمْ، وَيُقِيمُونَهُ مِنْ أَسْوَاقِهِمْ، وَيَكْفُونَهُمْ مِنَ التَّرَفُّقِ بِأَيْدِيهِمْ ممّا لاَ يَبْلُغُهُ رِفْقُ غَيْرِهِمْ »[22]، ويعني بـ(ولا قوام لهم جميعاً) أي: (الجنود والقضاة والرعية)، ثم استوصى بهم قائلاً (يامالك): «ثُمَّ اسْتَوْصِ بِالتُّجَّارِ وَذَوِي الصِّنَاعَاتِ، وَأَوْصِ بِهِمْ خَيْراً: الْمُقِيمِ مِنْهُمْ، وَالْمُضْطَرِبِ بِمَالِهِ، وَالْمُتَرَفِّقِ بِبَدَنِهِ، فَإِنَّهُمْ مَوَادُّ الْمَنَافِعِ، وَأَسْبَابُ الْمَرَافِقِ، وَجُلاَّبُهَا مِنَ الْمَباعِدِ وَالْمَطَارِحِ، فِي بَرِّكَ وَبَحْرِكَ، وَسَهْلِكَ وَجَبَلِكَ... »[23]، فأوصَّى بهم ؛ لأنَّهم دعامة من دعائم الاقتصادِ.
وجاءَ المصدرُ على زنة (فِعَالة) وهذه الصِّيغة تدلُّ على حرفةِ وصنعة التِّجارة، وقد جاءتْ مُنَّكرة في الآية التي استشهد بها: «رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ»[24]، فأدرَكوا أنّ الدُّنيا إلى زوالٍ، وأنّ الآخرة لِمَن قدمتْ يداه من الخيرِ، فسَعَوا سَعيه لاتلهيهم عنه تجارة ولا بيع[25].[26].
الهوامش:
[1] نهج البلاغة: خ 101، 102.
[2] ظ: في ظلال نهج البلاغة: 2 / 390.
[3] ظ: شرح نهج البلاغة: البحراني: 3 / 11 ـ 12.
[4]نهج البلاغة: خ 91، 94.
[5] الزلزلة / 7 ـ 8.
[6] ظ: شرح نهج البلاغة: ابن ابي الحديد: 7 / 25.
[7] ظ: ألفاظ المقادير في العربية: 12، 68.
[8] نهج البلاغة: خ 187، 200.
[9] ظ: منهاج البراعة: 10 / 123.
[10] ظ: العين (مادة ثقل): 5 / 136.
[11] ظ: النهاية في غريب الحديث والأثر: 125
[12] ظ: لسان العرب (مادة ثقل): 1 / 493.
[13] المفردات في غريب القران: 1 / 103.
[14]ظ: أساس البلاغة: 1 / 110 ـ 111.
[15] نهج البلاغة: الحكم القصار: 447، 417.
[16] ظ: شرح نهج البلاغة: ابن ابي الحديد: 20 / 86.
[17] نهج البلاغة: ك 31، 300.
[18] ظ: شرح نهج البلاغة: ابن ابي الحديد: 16 / 81.
[19] ظ: معاني الابنية في العربية: فاضل صالح السامرائي: 130.
[20] نهج البلاغة: ك 53، 324.
[21] ظ: شرح نهج البلاغة: ابن ابي الحديد: 17 / 40.
[22] نهج البلاغة: ك 53، 324.
[23] المصدر نفسه.
[24] النور/ 37 ونهج البلاغة: خ 222، 251.
[25] ظ: في ظلال نهج البلاغة: 4 / 460.
[26]لمزيد من الاطلاع ينظر: المعجم الاقتصادي في نهج البلاغة، للدكتورة سحر ناجي المشهدي، ط1، مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة، ص 46 –49.