بقلم: الشيخ محسن علي المعلم
((الحمد لله كما هو أهله، والصلاة والسلام على هداة الخلق إلى الحق، محمد وآله الطاهرين))
أما بعد:
قال عليه السلام:
«جَعَلَ لَكُمْ أسْمَاعاً لِتَعِيَ مَا عَنَاهَا، وَأَبْصَاراً لِتَجْلُوَ عَنْ عَشَاهَا، وَأَشْلاَءً جَامِعَةً لأَعْضَائِهَا، مُلاَئِمَةً لأَحْنَائِهَا في تَرْكِيبِ صُوَرِهَا، وَمُدَدِ عُمُرِهَا، بِأَبْدَان قَائِمَة بِأَرْفَاقِهَا، وَقُلُوب رائِدَة لاَِرْزَاقِهَا، فِي مُجَلِّلاَتِ نِعَمِهِ، وَمُوجِبَاتِ مِنَنِهِ، وَحَوَاجِزِ عَافِيَتِهِ. وَقَدَّرَ لَكُمْ أَعْمَاراً سَتَرَهَا عَنْكُمْ»[1].
تناول الإمام (عليه السلام) في هذا المقطع حديثاً موجزاً جامعاً عن خلق الإنسان وطرفاً من أعضائه وقواه مذكراً بوظائفها التي خلقت وأودعت من أجله في المنعم عليه بها في فترة امتحان وأجواء ابتلاء تزخر بالنعم وتنبض بالقوة والقدرة وتكتنف بالغيب والمجهول.
أ- السمع، ب- البصر، جـ- الأشلاء الجامعة للأعضاء، وهو هنا الجسد، د- البدن، هـ- القلب.
فهذه من أجزاء تركيبة الإنسان وتشكله في جوارحه وقواه.
والسمع والبصر طريقان للعلم، وقد أريد لهما أن يدرك بهما: وعي ما عنى، وجلاء ما عشى.
والهيكل البديع العجيب قد أحكم تركيبه ونفخت فيه القدرة ليقوم بأعماله جالباً لمنافعه ودافعاً لمضاره. ولئن أودعت القوة في حاستي السمع والبصر وفي بقية الحواس كافة والبدن فلا غنى لها عن رائد يسوسها ويقوم بتوجيهها وذلك هو: القلب. فإن أدى حق الريادة ووفّى بشؤونها فقد سلك بها غاياتها ووجهها مقاصدها ونعمت بمجللات النعم وسوابغ العطاء وصّدها عن التنكر وحجز عنها المكاره. هذا وهي تفعل فعلها وتقطع مداها لا تدري متى يقضى عليها فتموت فلا سمع ولا بصر ولا قلب ولا نبض ولا بدن ولا قوام، فقد لفّها الغيب وستر عنها الأجل.
وأفاض الإمام (عليه السلام) بعد هذا في التذكير والاعتبار والتأمل في تاريخ الأمم السالفة والأقربين الأدنين من الأهل في تقلبات العمر وتبدل القوى وتفاوت الأحوال والأوضاع.
وبعد...
فقد قال الله في محكم الكتاب:
﴿وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً﴾[2].
وقال -جلّت صنعته-:
﴿واللهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾[3].
وقال (عليه السلام): «ثُمَّ مَنَحَهُ قَلْباً حَافِظاً، وَلِساناً لاَفِظاً، وَبَصَراً لاَحِظاً، لِيَفْهَمَ مُعْتَبِراً، وَيُقَصِّرَ مُزْدَجِراً»[4].
«فَالصُّورَةُ صُورَةُ إِنْسَان، وَالْقَلْبُ قَلْبُ حَيَوَان، لاَ يَعْرِفُ بَابَ الْهُدَى فَيَتَّبِعَهُ، وَلاَ بَابَ الْعَمَى فيَصُدَّ عَنْهُ، فَذلِكَ مَيِّتُ الأَحْيَاءَ»[5].
«وَمَا كُلُّ ذِي قَلْبٍ بَلَبِيب، وَلاَ كُلُّ ذِي سَمْعٍ بِسَمِيع، وَلاَ كُلُّ ذِي نَاظِرٍ بِبَصِير»[6].
«وَالنّاظِرُ بِالْقَلْبِ، الْعَامِلُ بِالْبَصَرِ، يَكُونُ مُبْتَدَأُ عَمَلِهِ أَنْ يَعْلَمَ: أَعَمَلُهُ عَلَيْهِ أَمْ لَهُ؟! فَإِنْ كَانَ لَهُ مَضَى فِيهِ، وَإِنْ كَانَ عَليْهِ وَقَفَ عِنْدَهُ»[7].
وفي خطبة 176 تقرير ذلك بنحو آخر فيه قيام الموازنة بين استقامة القلب واستقامة اللسان.
«وإِنَّما الأَجْرُ في القَوْلِ بالْلِسانِ والعَمَلِ بِالأَيْدِي والأَقْدَامِ»[8].
«أَوْضَعُ العِلْمِ ما وُقِفَ على الْلِسانِ، وأَرْفَعُهُ ما ظَهَرَ في الجَوَارِحِ والأَرْكانِ»[9].
والأركان هي أعضاء البدن الرئيسة.
وبعد...
فهذا طرف من ركيزة التوحيد وإنبثاق كل خير وإبداع عن تجلي القدرة والحكمة في الخلق والتكوين والتشريع والتقنين، وإقامة الحجة البالغة بالهداية الإلهية، والألطاف الربانية الجلية والخفية والظاهرة والباطنة.[10].
الهوامش:
[1] خ 83 /110.
[2] سورة الإسراء /36.
[3] سورة النحل /78.
[4] خ 83 /112.
[5] خ 87 /119.
[6] خ 88 /121.
[7] خ 154 /216.
[8] م 42 /476.
[9] م 92 /483.
[10] لمزيد من الاطلاع ينظر: الأخلاق من نهج البلاغة: الشيخ محسن علي المعلم، العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة، ط1، ص 49-52.