من أخلاق الإمام علي (عليه السلام)
قوله: ((الْجُودُ حَارِسُ الأَعْرَاضِ[1]، والْحِلْمُ فِدَامُ[2] السَّفِيه، والْعَفْوُ زَكَاةُ الظَّفَرِ، والسُّلُوُّ[3] عِوَضُكَ مِمَّنْ غَدَرَ، والِاسْتِشَارَةُ عَيْنُ الْهِدَايَةِ، وقَدْ خَاطَرَ مَنِ اسْتَغْنَى بِرَأْيِه، والصَّبْرُ يُنَاضِلُ الْحِدْثَانَ[4]، والْجَزَعُ مِنْ أَعْوَانِ الزَّمَانِ، وأَشْرَفُ الْغِنَى تَرْكُ الْمُنَى[5]، وكَمْ مِنْ عَقْلٍ أَسِيرٍ تَحْتَ هَوَى أَمِيرٍ، ومِنَ التَّوْفِيقِ حِفْظُ التَّجْرِبَةِ، والْمَوَدَّةُ قَرَابَةٌ مُسْتَفَادَةٌ ولَا تَأْمَنَنَّ مَلُولًا))
بقلم: محمد صادق السيد محمد رضا الخرسان
((الحمد لله وإن أتى الدّهرُ بالخطب الفادحِ، والحدثِ الجليلِ، وأشهدُ أن لا إله إلّا الله ليس معه إله غيرهُ وأن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وآله))
أما بعد:
قال أمير المؤمنين عليه السلام ((الْجـُودُ حَارِسُ الأَعْرَاضِ، والْحِلْمُ فِدَامُ السَّفِيه، والْعَفْوُ زَكَاةُ الظَّفَرِ، والسُّلُوُّ عِوَضُكَ مِمَّنْ غَدَرَ، والِاسْتِشَارَةُ عَيْنُ الْهِدَايَةِ، وقَدْ خَاطَرَ مَنِ اسْتَغْنَى بِرَأْيِه، والصَّبْرُ يُنَاضِلُ الْحِدْثَانَ، والْجـَزَعُ مِنْ أَعْوَانِ الزَّمَانِ، وأَشْرَفُ الْغِنَى تَرْكُ الْمـُنَى، وكَمْ مِنْ عَقْلٍ أَسِيرٍ تَحْتَ هَوَى أَمِيرٍ، ومِنَ التَّوْفِيقِ حِفْظُ التَّجْرِبَةِ، والْمَوَدَّةُ قَرَابَةٌ مُسْتَفَادَةٌ ولَا تَأْمَنَنَّ مَلُولًا)).
الدعوة إلى الأخذ بمجموعة نصائح تهم كل فرد يريد العيش بسلام، ويهدف إلى بناء أساس متين في علاقاته الاجتماعية، فإنه لو التزم هذا الخط المرسوم سيصل إلى ما يريده وما يهدف إليه بجدارة واستحقاق ويكون أنموذجًا يحتذى ويقتدى به.
النصيحة الأولى: تُبين أن الكرم وبذل المال أو الجاه مما يوفر للإنسان حصانة تحميه من عاديات الناس -بالقول أو الفعل- لأنّ الناس بطبيعتهم يحبون مَن أكرمهم ويألفون جانبه وينتصرون له، وهذا ما لا ينكره أحد -غالبًا- إذن بذل المال بما يسمى كرمًا وجودًا يحرس الإنسان ومن يتعلق به.
النصيحة الثانية: تُبين أن الإغضاء عن إساءة الغير والتسامح وعدم الرد مع القدرة عليه يمنع الإنسان الجاهل عديم الخُلُق من الاعتداء مرة أخرى؛ لأن عدم المقابلة والصفح مع القدرة يعني السيطرة على النفس وضبطها لتمرير الموقف بسلام وبدون خسارة أحد، وينبغي للمؤمن أن لا يعتبر الإغضاء وعدم المجابهة ضعفًا ورضوخا للمعتدي السفيه وأنه سيكرر الإساءة بل عليه اتباع النصيحة ليكسب بذلك إنسانًا مغرورًا بنفسه فليصلحه.
النصيحة الثالثة: تُبين أن الإنسان إذا تعرّض لحالة مواجهة مع أحد وانتصر عليه وكَسَبَ الجولة وتغلّب عليه، ولم ينكّل به ولم يعاقبه على ما أساء إليه وعفا عن جرمه فإن ذلك سينمي وسيكّثر انتصاراته ويكون النصر حليفه في مواجهاته وهو ما يتمناه كل أحد عندما يدخل في مجابهة مع الآخرين فعليه أن يعفو ليزيد الله تعالى عليه فتوحه وانجازاته لأنّه تعالى عفوّ كريم يحب العفو وقد أمر بهِ فإذا رأى أن أحدًا من عباده التزم جانب العفو فيعوضه عن ذلك الموقف بالنصر والفتح.
النصيحة الرابعة: تبيّن أن تناسي غدر الغادرين، ونكثهم الاتفاق، وتراجعهم عن مواقفهم، نافعٌ في التغلب على المشكلة؛ لأنّها لو ترسخت في تفكير الإنسان، لأصيب بصدمة نفسية، أو حالة عصبية، قد تقضي على مستقبلهِ -أحيانًا-، مع أن ذلك لا يعالج القضية، كما يعالجها الصبر وتناسي ما يذكره بالإساءة، ليمكنه مواصلة الحياة، وليكتشف في نفسه قابليات التحمل والتجاوز للمصاعب والقدرة على المواجهة.
إذن فالسلو وعدم التذكر، تعويض عن التفكر في الماضي، واسترجاع الذكريات المحزنة، التي تؤجج نار الضغينة ثأرًا للكرامة.
النصيحة الخامسة: تبين أن طلب إبداء الرأي مع الآخرين -الذين يأتمنهم الإنسان على مصالحه ويثق بمستوى تفكيرهم ورجاحة عقلهم- مما يعبّر عنه بالاستشارة هو أولى الخطوات نحو الحل الصحيح لما يواجه الإنسان من مصاعب، لأنّ ذلك يعني أنه عرف عدم إحاطته بجوانب القضية التي تواجهه كافة مما يحتّم عليه الاستعانة بخبرات الآخرين العارفين ليتجاوز الأمر بلا تقديم خسائر كثيرة.
النصيحة السادس: تُبين أن عدم المبالاة بآراء الناصحين والمخاطرة بالإقدام من دون ما استشارة يعني عدم النضج لأن الإنسان -العاقل- إنّما يُقْدِم على الأمر بعد حساب النتائج ولو بالاستعانة بالآخرين الأبصر منه في الأمور ممن لهم تجربة في المجال المطلوب.
فإذا لم يعتن أحدٌ بهذا وتركه وراء ظهره يعني أنه يرتجل المواقف بلا رويّة ومن دون الرجوع إلى عقله بل يتبع عاطفته وما تحكم به مما لا يكون مضمونًا دائمًا.
النصيحة السابعة: تُبين أن الصبر وتحمّل المكاره وعدم الجزع أحسن ما يقاوم به الإنسان نوائب الزمان حتى لا تترك أثرًا -بالغ العمق- في نفسه؛ إذ حال الدنيا أن يُبتلى فيها الإنسان بل وتكثر عليه المواقف الصعبة، فإذا واجه ذلك بالجزع، فحتمًا سينهار في النهاية، ولا يمكنه التوازن في حالات أصعب مما سبق، وعندئذ ما العمل هل يتخلى!؟ أم يستعين بغيره ليتحمل عنه أعباء المشكلات!؟ أم ماذا؟
فالحل الأفضل أن يتشجع ولا يجبن في مواجهة الأحداث، وأن يتجرّأ فيكون وجهًا لوجه مع المشكلات فلا يترك الأعباء على غيره، وأن يتجلّد فلا يستسلم للهموم، كل ذلك بعد الاستعانة بالله تعالى والوثوق بالنفس بلا غرور.
النصيحة الثامنة: تبين أن الجزع وإظهار التأثر والحزن السريع أمام المصائب التي تواجه الإنسان في الحياة إنما يساعد على انهزامية الإنسان وعلى إضعاف قوته الدفاعية التي يحتاج إليها في مثل هكذا مواقف فيكون مصدر المشكلات متعدد المنافذ: المشكلة المواجهة، وعدم الصبر وإظهار الجزع... لأن لكل منها آثارًا سلبية إلا أن المشكلة الفعلية المواجهة آثارها مؤقتة بينما آثار الجزع مستمرة إلى أمد غير محدود.
فعلى العاقل ألا يعين على نفسه بالجزع بل يلجأ إلى الله تعالى المغيث، ويتّبع الأسلوب الحكيم في المعالجة والمواجهة. ولا يعتبر -ولو للحظة- أنّ الجزع يحل مشكلة أو يخفف من وقع ألم أبدًا.
النصيحة التاسعة: تبين أن أعلى مراتب الغنى وعدم الحاجة هو أن لا يتمنى الإنسان كثيرًا وإنما يتعود أن يعيش الواقع المحيط به من الناحية الاقتصادية فلا يترك خياله يأخذه إلى ما لا يمكنه تحقيقه وعندئذ إما الحسرة أو الحقد أو السرقة أو الاحتيال وما شابه هذه الخصال الذميمة التي تؤثر سلبًا على الفرد والمجتمع بصورة سواء.
فالأفضل والأجدر بالإنسان أن يكون جادّا (عمليًا) أكثر منه تعلقًا بالأوهام (خياليًا) في مجالات لا يمكنه تحقيقها.
النصيحة العاشرة: تُبين لزوم متابعة الإنسان عقله وأنه إذا ما حصل العكس وتابع هواه فسيخسر مواقف مهمة؛ فإن قيمة الإنسان -مهما كان- بما يحمله من عقل ومستوى متقدم في التفكير ومعالجة الأمور بحكمة ورزانة. وهذا يرفعه إلى مستوى أرقى مما هو فيه، بينما لو جعل عقله تحت إمرة هواه فكان منقادًا لشيء لا ثبات له وإنما يتأثر بما يطرأ عليه من حالات متضادة كالرضا والغضب والحب والبغض الرغبة وعدمها والانفتاح النفسي وعدمه...، فحتما لا تكون مواقفه متسقة ولا متناسبة مع وضعه وعندئذ يكون بصورة لا تخدمه أكيدًا بل لو راجع عقله سيحاول التهرب من تلك المواقف التي أملاها عليه هواه وعاطفته ومن المعلوم أن الإنسان مركّب من عقل وشهوة، فالمدير الموفّق دائمًا هو: العقل، والمدير الذي لا تضمن نتائج إدارته هو: الهوى أو العاطفة، مما لا يكن ثابتًا بمقياس محدد وإنما يتبدل بتبدل الظروف والحالات.
النصيحة الحادية عشر: تُبين أنّ الإنسان الذي يستفيد مما مرّ به من تجارب تحوطه عناية الله تعالى ورعايته وتوفيقه إذ لم يخذله بنسيان المواقف السابقة سواء الإيجابية أو السلبية ليتعرف من خلالها على التصرف المناسب في الحالة الراهنة، بينما نجد الذي لا يتعظ بما تقدم ولا يعتني بما سلف من مواقف تكفي لحمايته من تكرر مثلها -نجده- خاسرًا ملومًا من قبل الآخرين منتقدًا في تصرفاته ومواقفه.
النصيحة الثانية عشر: تُبين أنّ التحبّب إلى الناس، والتقرّب منهم، طريقٌ مضمونٌ للوصول إلى قلوبهم وعواطفهم، بما يتيح للإنسان كثرة الأنصار والأعوان، مما يعوّض قلة عدد الأقرباء والأرحام، فتكون المودة سببًا لكثرة المؤيدين.
فالفرد الواعي يمكنه ضمان ولاء عددٍ كبير عن طريق المودة والمحبة، ليحصل -بالتالي- على تعاطفهم ومودتهم ومصافاتهم ووفائهم، مما يوفر له الاستقرار والراحة، ويساعده على وفرة الإنتاج النافع، ويبعده عن مواقف التشنج والتأزم أو التصلب مع الآخر؛ لتعمر الحياة.
النصيحة الثالثة عشر: تُبيّن لزوم الابتعاد عن الإنسان الذي تتبدل مواقفه وعواطفه سريعًا؛ لأنّه لا يستفاد منه بشيء -ماديًا أو معنويًا- وصفة المَلل من الصفات المنفّرة عن المتصف بها فالتحذير -ضمنًا- من الاتصاف بها لأنها تقلل من الأخوان والأصدقاء وتنفّرهم وتفتح على الإنسان منافذ الكلام والاتقاد بما يُفشي عيبه بين الناس فيفتضح أمره وتتغلب هذه الصفة على كل الصفات الإيجابية والسلبية.
نعم من حق الإنسان أن يكون له رأيه في كل حادثة تحدث وبالتالي تتبدل مواقفه ولكن عليه أن يلتزم الصبر والحذر والتسامح والتأني والوفاء والصدق، مما يجعله أكثر رزانة وأعمق فكرًا فلا يرتجل المواقف وإنما تكون بين موقف وآخر مدة زمنية كافية لتصحيح هذا التحول مما يوفر المبررات المناسبة[6].
الهوامش:
[1] الأعراض: جمع العِرض وهو ما يصونه الإنسان من نفسه أو سلفهِ أو من يلزمه أمره. المنجد ص479 مادة (عَرَضَ).
[2] الفدام: مصفاة صغيرة أو خرقة تُجعل على فم الإبريق ليُصفّى بها ما فيه. المنجد ص572. مادة (فَدَمَ).
[3] السُّلُوُّ: والسْلَوْ: نسيان الشيء والذهول عن ذكره. لاحظ المنجد ص348. مادة (سلا).
[4] الحدثان والحَدَثان: نوائب الدهر. لاحظ المنجد ص121. مادة (حَدَثَ).
[5] المنى جمع المُنية: (البُغيّة، ما يتمنّى). المنجد ص777. مادة (مَنَى).
[6] لمزيد من الاطلاع ينظر: أخلاق الإمام علي عليه السلام: محمد صادق السيد محمد رضا الخرسان، ج1، ص 152 - 158.