سياسة الإمام علي (عيه السلام) أثناء حكومته: أولاً: كيف جرت البيعة للإمام علي (عيه السلام).

مقالات وبحوث

سياسة الإمام علي (عيه السلام) أثناء حكومته: أولاً: كيف جرت البيعة للإمام علي (عيه السلام).

2K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 28-11-2021

بقلم: د. جليل منصور العريَّض – الجامعة الأولى/ تونس

الحمد لله على ما أنعم وله الشكر بما ألهم والثناء بما قدم والصلاة والسلام على خير خلقه أجمعين محمد وآله الطاهرين.

وبعد:
لم يكن بوسع احد من صحابة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ان يتحمل عبء الخلافة وتركاتها الثقيلة، بعد مقتل عثمان بن عفان، لأن الحياة في المدينة قد آلت إلى الفوضى والاضطراب بحيث لم يعرف أي فرد موضع قدمه، كما ان اختلاط الأمور جعل الكثير لا يميز بين الصح والخطأ، فلقد ملك الثوار على الناس كل مسلك، وفقدت الخلافة قدسيتها وهيبتها، وظلت المدينة في الأيام الخمسة التي تلت مقتله بدون امام[1]، واستتر رؤوس الصحابة في بيوتهم هروباً من الاتهام بالتحريض والفتنة، وظل جثمان عثمان ثلاثة أيام دون ان يوارى الثرى خوفاً من سخط الثوار، ولما سمع بعض الثائرين عليه بأنه سيدفن «قعدوا له في الطريق بالحجارة... فلما خرج به على الناس، رجموا سريره، وهموا بطرحه»[2]، فكل تلك الاحداث تعني ان وضع الأمة الإسلامية قد تعقد للغاية بحيث لم يعد بوسع احد ان يتصدى لتلك الفتنة، وإعادة الأمور إلى نصابها، بالقود للحاكم المقتول، وتأمين أهل المدينة مما اعتراهم من خوف وهلع، فلابد لذلك الظرف الدقيق الحساس من رجل حازم، يستطيع ان يقود الأمة إلى بر الأمان، فوقع اختيارهم على علي (عيه السلام).
لقد تردد علي (عيه السلام) كثيراً قبل ان يستجيب لنداءات الناس الملحة من كل صوب[3]واضعاً نصب عينيه أمرين:

الأول: مسؤول إخماد الفتنة والقود من قتلة عثمان وتأمين الناس.

الثاني: العدل في العطاء.
ويحتاج الأمر الأول إلى الحكمة والتؤدة وسعة الصدر لاستلال ما في نفوس العامة من غيظ، مع الصبر في معالجة القضايا حتى تنكشف الجوانب المبهمة، لمعاقبة الجناة والعودة بالحياة إلى طبيعتها. ولكن رفض طرفي النزاع ـ الجاني وأهل المجني عليه ـ لتلك السياسة المرحلية المتأنية سيؤدي إلى وضع الأمة على طريق غامض مظلم، لتعارض اهداف طرفي النزاع، مما يعني ان قتل عثمان لم يكن الا بداية خطيرة كامنة في النفوس.

اما الأمر الثاني في تحقيق العدالة، فهو وان كان مطمع الثوار والفئات المستضعفة الناقمة على سياسة عثمان، الا أنه يتعارض تماما وطموحات القرشيين من امثال طلحة والزبير[4] الذين اذكوا نار الفتنة ضد عثمان لما وجدوا ان بين أمية قد استأثروا دونهم بالمال، لأن سعيهم في الخفاء، وان كان في الظاهر من أجل الحرص على مصالح الناس، فقد كان من أجل مصالحهم الذاتية، ثم ان قبولهم بالحق سيعرضهم للعقاب لأنهم، وان لم يباشروا قتل عثمان، فإنهم قد هيأوا الظروف المناسبة لقتله بتأليب الثوار عليه. لذلك حاول علي (عيه السلام) رفض الخلافة مبيناً وجهة نظره في مستقبل الأمة بعد ان عايش ما انتاب المجتمع الإسلامي من هزات عنيفة عقيب مقتل عثمان، مما ادى إلى تهرب جميع الصحابة من المسؤولية التي عبر عنها ـ في احدى خطبه ـ بالغموض، لتعدد وجوهها، وتشكل الوانها، مما جعل العقول لا تستوعبها لما اكتنفها من تشويش، حجب الحقيقة خلف غيوم كثيفة داكنه[5].
وفي مثل هذا الجو المضطرب، لابد من منقذ يخرج الأمة من مأزقها الخطير، ولابد ان يكون ذلك الإنسان مرضيا عند جميع عامة المسلمين، لا عند فئة معينة من الأستقراطية القرشية. لذلك ـ فمن الارجح ـ ان تردد علي (عيه السلام) في قبول الخلافة، هو خشيته من عدم اتفاقة في الرأي من حيث سياسة توزيع المال مع تلك الفئة، التي لن ترضى بسياسة تتعارض ومصالحها. وحتى يحتاط لنفسه من الدخول مع تلك الفئة القرشية في مواجهة، فيما لو اضطر لقبول الخلافة، امتثالاً لالحاح عامة المسلمين، كان قوله «واعملوا اني ان اجبتكم ركبت بكم ما اعلم، ولم اصغ إلى قول القائل وعتب العاتب»[6]، ولقد قبلت تلك الفئة شرطه ذاك على دخن، بينما قبلته عامة الناس بابتهاج وسرور، ولكن علياً (عيه السلام) لم يرَ بداً من التريث والنظر في واقع الأمة نظرة المتأمل، المتفكر في عواقب قبوله لقيادتها[7]، الا ان الحاح الجماهير ـ كما يبدو ـ كان اقوى من تريثه وتردده، فكانت البيعة له بالخلافة رغم امتناعه كما وصف ذلك في قوله «وبسطتم يدي فكففتها، ومددتموها فقبضتها»[8]. فالبيعة لعلي (عيه السلام) انعقدت له باقتناع تام وطواعية وسرور «وكان أول من صعد المنبر طلحة فبايعه... ثم بايعه الزبير وسعد واصحاب النبي جميعاً»[9].[10].

 الهوامش:
[1] يروي الطبري في تاريخه ان المدينة بقيت «بعد قتل عثمان خمسة أيام واميرها الغافقي بن حرب يلتمسون من يجيبهم إلى القيام بالأمر فلا يجدونه»4/432.
[2] تاريخ الطبري 4/412.
[3] راجع تاريخ الطبري4/ 427، 428.
[4] من أجل معرفة دور الزبير وطلحة في فتنة عثمان راجع قولهما في ص 253 وما بعدها من هذا البحث.
[5] راجع خطب ـ 91.
[6] راجع خطب 91.
[7] جاء عند ابن أعثم الكوفي في الفتوح 2/432 أنه لما رضي جمهور الناس بالبيعة لعلي (عليه السلام) بالخلافة قال لهم «أخبروني عن قولكم هذا رضينا به طائعين غير كارهين، أحق واجب هذا من الله عليكم أم رأي رأيتموه من عند أنفسكم؟ قالوا: بل هو واجب أوجبه الله عزوجل علينا، فقال علي (عليه السلام) فانصرفوا يومكم هذا إلى غد... فلما كان من الغد أقبل الناس إلى المسجد، وجاء علي بن أبي طالب (عليه السلام) فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس إن الأمر أمركم فاختاروا لأنفسكم من أحببتم، وأنا سامع مطيع لكم... فصاح الناس من كل ناحية وقالوا: نحن على ما كنا عليه بالأمس» فلقد أعطى علي (عليه السلام) لنفسه فرصة للتفكر كما أعطى للناس فرصة لمراجعة أنفسهم قبل الإقدام على بيعته كما نلاحظ من الرواية.
[8] خطب ـ 226 المطلع.
[9] ابن قتيبة: الإمامة والسياسة 1/47، وراجع أيضاً ابن أعثم الكوفي: الفتوح 2/431، العقد الفريد 4/310.
[10] لمزيد من الاطلاع ينظر: فكر الإمام علي عليه السلام كما يبدو في نهج البلاغة: للدكتور خليل منصور العريّض، ط: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة: ص 239 – 242.

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.4935 Seconds