بقلم: الدكتور علي الفتال
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وآله الطيبين الطاهرين.
أما بعد:
من خلال قراءتي ((نهج البلاغة)) بتأملٍ وتأنٍ ورويَّة، وجدت في محتواه خصائص هي بمجموعها تشكل قوانين الحياة بمفاصلها الحيوية، وأنا بتحديدي تلك الخصائص لا يعني ذلك أنني توفرت على خصائص ((النهج)) كلها بل هي بعض ما تراءى لي بعد قراءتي المتأنية تلك. لذلك أطلقتُ عليها ((من خصائص))، والتبعيض هذا الذي دلّت عليه الأداة (مِن) يعني أن ثمة خصائص أخرى يضمها كلام علي عليه السلام فاكتفيت بالذي وجدت.
وإليك قارئي العزيز هذه الخصائص:
كان عليه السلام إذا أراد أن يقيم دليلاً أوحجة على أحد استشهد بجانب من قصص الأنبياء عليهم السلام لدعم ذلك الدليل أوتلك الحجة، فقد قال عليه السلام في كيفية رجاء الله:
((.. يدعي بزعمه أنه يرجوالله، كذب والعظيم، ما باله لا يتبين رجاؤه في عمله؟ فكل من رجا عُرف رجاؤه في عمله، وكل رجاءٍ إلا رجاء الله تعالى فإنه مدخول (مغشوش) وكل خوف محقق إلا خوف الله فإنه معلول (عارض) يرجوالله في الكبير، ويرجوالعباد في الصغير، فيعطي العبد ما لا يعطي الرب، فما بال الله جلَّ ثناؤه يُقصِّرُ به عما يُصنع لعباده؟ أتخاف أن تكون في رجائك له كاذباً؟ أوتكون لا تراه للرجاء موضعاً؟ وكذلك إن هوخاف عبداً من عبيده، أعطاه من خوفه ما لا يعطي ربّه، فجعل خوفه من العباد نقداً، وخوفه من خالقه ضاراً ووعداً. وكذلك من عظمت الدنيا في عينيه، وكبر موقعها في قلبه، آثرها على الله تعالى، فانقطع إليها وصار عبداً لها. ولقد كان في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم كافٍ لك في الأسوة (القدوة). ودليل لك على ذم الدنيا وعيبها، وكثرة مخازيها ومساويها، إذا قبضت عنه أطرافها، ووطئت لغيره أكتافها (جوانبها) وفُطم عن رضاعها أوزُوِيَ (قُبض) عن زخارفها.
وإن شئت ثنّيت بموسى كليم الله عليه السلام حيث يقول:
- ربي إني لما أنلت إليَّ من خيرٍ فقير.
والله ما سأله إلا خبزاً يأكله، لأنه كان يأكل بقلة الأرض، ولقد كانت خُضرة البقل تُرى من شفيف صفاق (جلده) بطنه، لهزاله وتشذب لحمه.
وإن شئت ثلثت بداود عليه السلام صاحب المزامير، وقارئ أهل الجنة فلقد كان يعمل سفائف الخوص بيده ويقول لجلسائه:
- أيكم يكفيني بيعها؟
ويأكل قرص الشعير من ثمنها.
وإن شئت قلت في عيسى بن مريم عليه السلام؛ فلقد كان يتوسد الحجر، ويلبس الخشن، ويأكل الجشب، وكان إدامه الجوع، وسراجه الليل والقمر، وظلاله في الشتاء مشارق الأرض ومغاربها، وفاكهته وريحانه ما تنبت الأرض للبهائم؛ ولم تكن له زوجة تفتنه، ولا ولد يحزنه، ولا مال يكفته، ولا طمع يذله، دابته رجلاه، وخادمه يداه! فتأسَّ (اقتدِ) بنبيك الأطيب الأطهر صلى الله عليه وآله وسلَّم، فإنه فيه أسوة لمن تأسّى، وعزةً لمن تعزّى، وأحب العباد إلى الله المتأسّي بنبيّه والمقتص لأثرها.
وقال عليه السلام: {.. ولقد كان صلى الله عليه وآله وسلَّم يأكل على الأرض، ويجلس جلسة العبد، ويخصف بيده نعله، ويرقّع بيده ثوبه، ويركب الحمار العاري، ويردف خلفه، ويكون الستر على باب بيته فتكون فيه التصاوير فيقول:
- يا فلانة - لإحدى زوجاته - غيبيه عني فإني إذا نظرت إليه ذكرت الدنيا وزخارفها.
فأعرض عن الدنيا في قلبه وأمات ذكرها في نفسه}.
وقال عليه السلام {.. ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم ما يدلك على مساويء الدنيا وعيوبها، إذا جاع فيها مع خاصته (خصوصيته عند ربه) وزويت عنه زخارفها مع عظيم زلفته (منـزلته) فلينظر ناظر بعقله: أكرم الله محمداً بذلك أم أهانه؟ فإن قال أهانه، فقد كذب - والله العظيم - بالإفك العظيم، وإن قال أكرمه إن الله قد أهان غيره حيث بسط الدنيا له، وزواها عن أقرب الناس منه))[1].
الهوامش:
[1] لمزيد من الاطلاع ينظر: أضواء على نهج البلاغة بشرح ابن أبي الحديد في استشهاداته الشعرية، د. علي الفتال، ط: مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة: ج1، ص 327 - 329.