بقلم: الدكتور حسن طاهر ملحم – الجامعة العربية.
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من تبوأ من الفصاحة ذروتها وأصبح بذلك أفصح العرب أبي القاسم محمد صلى الله عليه وآله الطيبين الطاهرين لا سيما الإمام علي عليه السلام أمير البيان..
وبعد:
استعمل الإمام علي (عليه السلام) المثل العربي في مواطن كثيرة وقفت عليها في كتاب (نهج البلاغة)، وهي على النحو الاتي:
قال عليه السلام: (إنها خدعة الصبي)
ومن كتاب له (عليه السلام) إلى معاوية جواباً.
(وأما تلك التي تريد، فإنها خدعة الصبي عن اللبن في أول الفصال والسلام لأهله...)[1]. طلب الإمام (عليه السلام) من جرير بن عبد الله البجلي[2] أن يذهب إلى معاوية بكتابه المعروف والذي جاء في قسم منه (أما بعد فإن بيعتي في المدينة لزمتك وأنت في الشام لأنه بايعني الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بايعوا؟ فلم يكن للشاهد أن يختار وللغائب أن يرد)[3].
وحينما وصل مبعوث الإمام علي (عليه السلام) أبطأ معاوية، وأخذ يماطله ويستمهله فقد أتاه في منزله فقال: يا جرير، وإني قد رأيت رأياً، قال: هاته، قال: اكتب إلى صاحبك يجعل لي الشام ومصر جباية، فإذا حضرته الوفاة لم يجعل لأحد بعده بيعة في عنقي، وأسلم له هذا الأمر واكتب إليه بالخلافة.[4]
وقد ظن البعض من أصحاب علي (عليه السلام) بجرير البجلي الظنون فمنهم من ظن انه قال إلى معاوية وآخرون قالوا سجن لطول مدة بقائه وكانت تلك فتنة سفيانية لها آثار على بعض الصحابة وهذا نوع من أنواع الإعلام النفسي الذي مارسه معاوية بن أبي سفيان، وماطله ثلاثة اشهر[5].
هذا الإعلام الخطير كشفه ابن قتيبة[6]: (إنما أراد معاوية في طلبه الشام ومصر ألا يكون لعلي في عنقه بيعة، وأن يخرج نفسه مما دخل فيه الناس، فكتب إلى علي يسأله ذلك، فلما أتى علياً كتاب معاوية عرف أنها خدعة منه.
وكتب له الإمام (عليه السلام) (أما بعد فإنما أراد معاوية ألا يكون في عنقه بيعة وأن يختار من أمره ما أحب، وأراد أن يريثك حتى يذوق أهل الشام، وإن المغيرة بن شعبة قد كان أشار علي أن استعمل معاوية على الشام وأنا بالمدينة فأبيت ذلك، ولم يكن الله ليراني اتخذ المضلين عضُداً، فإن بايعك الرجل وإلا فأقبِل)[7].
لقد كانت كلمات الإمام (عليه السلام) هي الدين بحقيقته، وليس تتبع المنهج السياسي المصلحي أو الميكافلي، أو لو كان علي بن أبي طالب (عليه السلام) قد اتخذ المضلين عضُداً له في شؤون الأمة الإسلامية لما كان علي بن أبي طالب الذي رباه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا ذاك الذي ضحى بحقه من اجل بقاء دينه وسلامة أمة الإسلام ودولتها الإلهية.
ويذكر الميداني[8]: بعد إرساله للمثل حادثة إرسال أمير المؤمنين (عليه السلام) عنه جرير بن عبد الله البجلي ليأخذ البيعة فاستعجل عليه فقال: انه ليست بخدعة الصبي عن اللبن، هو أمر له ما بعده، وهذا خلاف الواقع التاريخي فقد ما طال واستمهل معاوية جريراً حتى ظنت به الناس الظنون.
لذلك كان جواب الإمام علي (عليه السلام) لجرير شافياً دقيقاً عالج فيه الموقف لأنه لا يتبع المنهج المصلحي كما رأينا، فكان المثل (فإنها خدعة الصبي عن اللبن في أول الفصال) أصدق أن يتمثل به الإمام في جوابه إلى معاوية بعد أن عرف غاياته وليس لمعاوية غاية إلا أن يماطل ويساوم ويلبس الباطل لبوس الحق ويطليه على الناس بأنه صاحب دم الخليفة المقتول عثمان بن عفان فإن في كلامه خدعة عراها الإمام (عليه السلام) أمام الناس بأن معاوية يطلب الرياسة لا الثأر كما يخدع الصبي عن اللبن لغاية الفصال.
وخدعة الصبي عن اللبن: هي تلطيخ الثدي بشيء مر، لينفر عن الإلتقام، مقدمة للفطام وليس القصد ذلك إلا الانفصال فحسب[9].
الهوامش:
[1]- نهج البلاغة: كتاب 302.
[2]- جرير بن عبد الله البجلي: يكنى أبا عمرو وأسلم في السنة التي قبض فيها النبي (ص) ووجهه النبي (صلى الله عليه واله) إلى ذي الخاصة وهدمه (اصنام دوس) ونزل الكوفة، توفي في السراة في ولاية الضحاك بن قيس سنة 51 أو 54 هـ، ترجمته: ابن سعد: الطبقات الكبرى 1/36، الرازي: الجرح والتعديل2/502، الطبري: تاريخ الامم والملوك 3/560، ابن الأثير: أسد الغابة 2/24، الذهبي الكاشف في معرفة من له رواية في الكتب الستة 1/291، ابن حيان: مشاهير علماء الامصار، ص76.
[3]- ابن قتيبة: الإمامة والسياسة، 1/84.
[4]- ابن مزاحم: وقعة صفين: 52.
[5]- ابن عبد ربه: العقد الفريد 4/305.
[6]- الإمامة والسياسة: 1/84.
[7]- ابن مزاحم: وقعة صفين: 52.
[8]- مجمع الأمثال:1/102.
[9]- لمزيد من الاطلاع ينظر: الأمثال العربية ومدلولاتها التاريخية في كتاب نهج البلاغة، للدكتور حسن طاهر ملحم، ط1، مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة، ص 131 – 133.