بقلم: د. عبد الزهرة جاسم الخفاجي
الحمد لله حمد الشاكرين، والشكر لله شكر الذاكرين، والصلاة وأتم التسليم على خاتم النبيين محمد وآله الطيبين الطاهرين، وبعد.
وبعد:
فقد تناولنا في المقالات السابقة منهاج الإمام علي عليه السلام في إصلاح الحاكم وفي المحور الثاني من الإصلاح سنتناول بيان منهاجه عليه السلام في إصلاح الرعية.
أولاً: علاقة الراعي بالرعية
في هذا الميدان قد خصص الإمام علي (عليه السلام) الجزء الأكبر من عهده إلى الأشتر (رضي الله عنه) بما أشتمل عليه من أوامر ونصائح لرسم العلاقة بين الراعي والرعية بما يضمن إصلاح الرعية ومنها:
1 - حسن التعامل:
تدرج الإمام علي (عليه السلام) في صلاح الراعي مبتدئاً بترتيب علاقة الراعي بالله تعالى ثم علاقته بنفسه لينتهي به إلى ترتيب علاقته برعيته، والتعامل مع الرعية أمرٌ في غاية الأهمية؛ لأنه مهمة وواجب الراعي، وتكمن أهميته في أنّ الرعية تشمل جميع البشر ضمن حدود رعايته وقد يكون منهم المسلم وغير المسلم، وكل من هؤلاء يحتاج معاملة حسب مقتضى الحال. ويأتي في مقدمة ما يجب أنْ يتحلى به الراعي هو حسن التعامل حيث وصف الله تعالى رسوله الكريم (صلى الله عليه واله) في قوله تعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾[1].
وتأتي الرأفة والرحمة في مقدمة حسن التعامل حيث قال تعالى: ﴿لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾[2].
كذلك كان الإمام علي (عليه السلام) وهو ابن مدرسة رسول الله (صلى الله عليه وآله) يتعامل مع رعيته على أساس من الرحمة والأخوة؛ فاذا كانت الرعية تخشى ظلم حكامها فإنْ الإمام علي (عليه السلام) على غير ذلك، إذ كان هو من يخشى أن يَظلمَ رعيته كما عبر عن ذلك في خطبته قائلا: «وَلَقَدْ أَصْبَحَتِ الْأُمَمُ تَخَافُ ظُلْمَ رُعَاتِهَا وَأَصْبَحْتُ أَخَافُ ظُلْمَ رَعِيَّتِي»[3].
وفي هذا الإطار كانت وصاياه لولاته وعماله؛ ففي عهده لمحمد بن أبي بكر حين ولاه مصر يوصيه: «فَاخْفِضْ لَهُمْ جَنَاحَكَ وأَلِنْ لَهُمْ جَانِبَكَ وابْسُطْ لَهُمْ وَجْهَكَ وآسِ بَيْنَهُمْ فِي اللَّحْظَةِ والنَّظْرَةِ حَتَّى لا يَطْمَعَ الْعُظَمَاءُ فِي حَيْفِكَ لَهُمْ ولا يَيْأَسَ الضُّعَفَاءُ مِنْ عَدْلِكَ عَلَيْهِمْ»[4]، والإمام علي (عليه السلام) وهو يستمد مفهوم السلطة من المفهوم القرآني والنبوي، نجده يدفع الكثير من توجيهاته ونصائحه في كيفية التعامل مع الرعية مؤكداً على أنَّ: «حسن السياسة يستديم الرياسة»[5] وأنَّ: «رأس السياسة استعمال الرفق»[6]. وكما أنَّ: «حسن السياسة قوام الرعية»[7]؛ فإنَّ: «مَنْ حَسُنَتْ سياستُه وجبت إطاعته»[8].
ولم يقتصر بوصيته لمالك الاشتر (رضي الله عنه): «وأشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعا ضاريا تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان: إما أخ لك في الدين وإما نظير لك في الخلق يفرط منهم الزلل، وتعرض لهم العلل، ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ»[9]. بالرحمة لأهل مصر فقط وإنما أراد هذه الرحمة أنْ تفيض على الإنسانية جميعا منطلقا (عليه السلام) من وحدة الخلق فهو خير من يعلم بما يريد الله تعالى في قوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾[10].
وما يعنيه رسول الله (صلى الله عليه وآله) حين يقول: «يا أيُّها النَّاس: إنَّ رَبَكُم وَاحِد، و إنَّ أبَاكُم وَاحِد، ألا لا فَضْلَ لِعَرَبي عَلى عجمي ولا عَجمِي عَلى عَرَبي، و لا لأحمَر على أسوَد و لا لأسوَد على أحمَر إلا بالتَّقوى»[11] و«أَنْتُمْ بَنُو آدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ»[12].
وبناءاً على ذلك كان الناس من وجهة نظر الإمام علي (عليه السلام) صنفين: «إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ، وَإِمَّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ»[13]، ومن منظار المساواة ولكي يضمن التعايش بين الراعي ورعيته لم يكتف (عليه السلام) من الراعي بأن يتصف بالرحمة والمحبة وإنما أمره بالتجاوز عن الخطأ والزلل؛ فقد يخطأ الإنسان والخطأ صفة ملازمة له على حد قول رسول الله (صلى الله عليه وآله): «كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ، وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ»[14] فلابد من الصفح عن المسيء والعفو عن المخطئ والتماس العذر لهم فإنَّ: «أَعْرَف النَّاسِ بِاللهِ أَعْذَرُهُمْ لِلنَّاسِ وَإنْ لَمْ يَجِدْ لَهُمْ عُذْرَاً»[15] وفي مقابل ذلك فإنَّ: «شر الناس من لا يقبل العذر ولايقيل الذنب»[16] وإن من النتائج المترتبة على الإحسان تسهيل مهمة الوالي كما جاء في قول الإمام علي (عليه السلام): «أحْسِنَ إِلى المُسِيءِ تَملِكُهُ»[17].
وهكذا فقد وضع (عليه السلام) أساسا رسم فيه طريقا واضحة المعالم بعيدة عن اللبس في العلاقة بين الراعي والرعية)[18].
الهوامش:
[1] آل عمران: 159.
[2] التوبة: 128.
[3] صبحي الصالح، نهج البلاغة خطبة 97، ص141.
[4] م. ن. ص، 383.
[5] الريشهري، محمد، ميزان الحكمة، قم، دار الحديث، ط1، 1422 هـ، 4/1838.
[6] الواسطي،كافي الدين أبي الحسن (ق6هـ) عيون الحكم والمواعظ , تحقيق: حسين الحسني، قم، دار الحديث، ط1، د. ت، ص263.
[7] م. ن. ص227.
[8] غرر الحكم، ص341.
[9] شرح النهج، 17/32.
[10] الحجرات: 13.
[11] الغدير، 6/225، الألباني، أبو عبد الحمن محمد ناصر الدين (ت1420هـ) سلسلة الاحاديث الصحيحة، الرياض، مكتبة المعارف، ط1، 1996م، ح 3700، 6/449.
[12] أبو داود، سليمان بن الأشعث (ت275هـ) سنن أبي داود، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، بيروت، المكتبة العصرية، ح 5116 , 4/331.
[13] شرح نهج البلاغة، 17/30.
[14] ابن ماجة، أبو عبد الله محمد بن يزيد (ت273هـ) سنن ابن ماجة، تحقيق: محمد فؤآد عبد الباقي، بيروت، دار احياء الكتب العربية، ح 4251، 2/1420.
[15] غرر الحكم رقم 242، ص111.
[16] غرر الحكم، ص234.
[17] غرر الحكم رقم42، ص 76.
[18] لمزيد من الاطلاع ينظر: صلاح الراعي وإصلاح الرعية قراءة في عهد الإمام علي عليه السلام إلى مالك الأشتر رضوان الله عليه: للدكتور عبد الزهرة جاسم الخفاجي، ط: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة: ص 77- 83.