بقلم م. م. الشيخ محسن الخزاعي- جامعة الكوفة:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين أبي القاسم محمد وآله الطيبين الطاهرين أساس الدين وعماد اليقين.
أما بعد:
لا يخفى على دارسٍ حجم تأثر الإمام أمير المؤمنين عليه السلام بالقرآن الكريم، فقد استحوذ الكتاب العزيز على اهتماماته، وانعكس على سلوكه وأدائه، حتى صارت علاقة بالقرآن سمة بارزة من سمات الإمام عليه السلام وخصوصية واضحة من خصوصياته، وذلك ما أثبته حديث الثقلين وغيره من الأحاديث والروايات الشريفة الثابتة عن رسول وأهل بيته عليهم السلام التي تؤكّد على خاصيّة ذلك الرابط.
وقال أمير المؤمنين عليه السلام في صفة القرآن الكريم: "ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ, نُوراً لَا تُطْفَأُ مَصَابِيحُهُ وَسِرَاجاً لَا يَخْبُو تَوَقُّدُهُ وَبَحْراً لَا يُدْرَكُ قَعْرُهُ وَمِنْهَاجاً لَا يُضِلُّ نَهْجُهُ وَشُعَاعاً لَا يُظْلِمُ ضَوْءُهُ وَفُرْقَاناً لَا يُخْمَدُ بُرْهَانُهُ وَتِبْيَاناً لَا تُهْدَمُ أَرْكَانُهُ، وَشِفَاءً لَا تُخْشَى أَسْقَامُهُ وَعِزّاً لَا تُهْزَمُ أَنْصَارُهُ وَحَقّاً لَا تُخْذَلُ أَعْوَانُهُ؛ فَهُوَ مَعْدِنُ الإيمان وَبُحْبُوحَتُهُ ويَنَابِيعُ الْعِلْمِ وَبُحُورُهُ وَرِيَاضُ الْعَدْلِ وَغُدْرَانُهُ وَأَثَافِيُّ الإسلام وَبُنْيَانُهُ وَأودِيَةُ الْحَقِّ وَغِيطَانُهُ، وَبَحْرٌ لَا يَنْزِفُهُ الْمُسْتَنْزِفُونَ وَعُيُونٌ لَا يُنْضِبُهَا الْمَاتِحُونَ وَمَنَاهل لَا يَغِيضُهَا الْوَارِدُونَ وَمَنَازِلُ لَا يَضِلُّ نَهْجَهَا الْمُسَافِرُونَ وَأَعْلَامٌ لَا يَعْمَى عَنْهَا السَّائِرُونَ وَآكَامٌ لَا يَجُوزُ عَنْهَا الْقَاصِدُونَ، جَعَلَهُ اللهُ رِيّاً لِعَطَشِ الْعُلَمَاءِ وَرَبِيعاً لِقُلُوبِ الْفُقَهَاءِ ومَحَاجَّ لِطُرُقِ الصُّلَحَاءِ وَدَوَاءً لَيْسَ بَعْدَهُ دَاءٌ، وَنُوراً لَيْسَ مَعَهُ ظُلْمَةٌ وَحَبْلًا وَثِيقاً عُرْوَتُهُ وَمَعْقِلًا مَنِيعاً ذِرْوَتُهُ، وَعِزّاً لِمَنْ تَوَلَّاهُ وَسِلْماً لِمَنْ دَخَلَهُ وَهُدًى لِمَنِ ائْتَمَّ بِهِ وَعُذْراً لِمَنِ انْتَحَلَهُ، وَبُرْهَاناً لِمَنْ تَكَلَّمَ بِهِ وَشَاهِداً لِمَنْ خَاصَمَ بِهِ وَفَلْجاً لِمَنْ حَاجَّ بِهِ وَحَامِلًا لِمَنْ حَمَلَهُ وَمَطِيَّةً لِمَنْ أَعْمَلَهُ، وَآيَةً لِمَنْ تَوَسَّمَ وَجُنَّةً لِمَنِ اسْتَلْأَمَ وَعِلْماً لِمَنْ وَعَى وَحَدِيثاً لِمَنْ رَوَى، وَحُكْماً لِمَنْ قَضَى([1])".
وهذا الوصف هو أجلى الأوصاف التي وُصِفَ بها القرآن الكريم، وأنصعها، حتى أنّ السيد الخوئي عقبّ على هذا الكلام بقوله:" استعرضت هذه الخطبة كثيراً من الأمور المهمة التي يجب الوقوف عليها، والتدبر في معانيها..."([2])
وهذا الوصف للقرآن الكريم ناجمٌ من تأثر نهج البلاغة الكبير بالقرآن الكريم الذي، فقد وردت أوصاف القرآن الكريم في بعض آياته، منها قوله تعالى: ﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَآءٌ لِمَا فِى الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤمِنِينَ قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ ([3]).
فقد بين الشيخ مكارم الشيرازي: أنَّ هذه الآية بيّنت أربع صفات للقرآن الكريم، هي: "الموعظة" التي هي عبارة عن التذكير بالنعم والطيبات المقترن برقة القلب، "والشفاء" والمقصود به شفاء أمراض القلوب، وبتعبير القرآن شفاء ما في الصدور، هي تلك التلوّثات المعنوية والروحية، كالبخل والحقد والحسد والجبن والشرك والنفاق وأمثال ذلك، وكلها من الأمراض الروحية والمعنوية، "والهداية " والمقصود بها تكامل ورقي الإنسان في كافة الجوانب الايجابية، "والرحمة" وهي النعم المادية والمعنوية الإلهية التي تشمل حال الأفراد اللائقين، فالرحمة متى ما نسبت إلى الله فإِنّها تعني بذله وهبته للنعم، وإذا ما نسبت إلى البشر فإِنّها تعني العطف ورقة القلب([4]).
ثم أتبع كلامه بما ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة بقوله:" يوضح أمير المؤمنين علي عليه السلام في كلامه الجامع في نهج البلاغة هذه الحقيقة بأبلغ تعبير، حيث يقول: "فاستشفوه من أدوائكم، واستعينوا به على لأوائكم، فإِنّ فيه شفاء من أكبر الداء، وهو الكفر والنفاق، والغي والضلال"([5]))[6].
الهوامش:
([1]) نهج البلاغة، 2/ 177.
([2]) البيان في تفسير القرآن، السيد الخوئي، 28.
([3]) يونس، 57ـ 58.
([4]) ظ : الأمثل، 6/ 382.
([5]) الأمثل، 6/382، ونهج البلاغة، 2/ 91.
([6] )لمزيد من الاطلاع ينظر: أثر نهج البلاغة في تفاسير الإمامية، الشيخ محسن الخزاعي، طبعة مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة: ص 152 - 155