بقلم . د. الشيخ محسن الخزاعي
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين أبي القاسم محمد وآله الطيبين الطاهرين أساس الدين وعماد اليقين.
أما بعد:
قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لاِدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِّنَ السَّاجِدِينَ قَالَ مَا مَنَعَكَ ألا تَسْجُدَ إذ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّار وَخَلَقْتَهُ مِن طِين}([1]).
هذا النص يوضح أنَّ شقاء الشيطان كله كان وليدَ تكبره، وانَّ أنانيته هذه التي جعلته يرى نفسه أفضلَ ممّا هو، هي التي تسببت في أنْ لا يكتفي بعدم السجود لآدم، بل وينكر علم الله تعالى وحكمته، ويعترض على أمر الله سبحانه، وينتقده، فخسر على أثر ذلك منزلته ومكانته، ولم يحصد من موقفه إلا الذلة والصغار بدل العظمة، فإنَّ امتناع الشيطان من السجود لآدم عليه السلام كان تمرّداً مقروناً بالاعتراض والإنكار للمقام الربوبي، لأنّه قال: "أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ"، وهذه الجملة تعني في حقيقة الأمر أنَّ أمرك بالسجود لآدم أمرٌ مخالفٌ للحكمة والعدالة وموجب لتقديم "المرجوح" على "الراجح".([2])
لهذا فإِنّ مخالفته كانت تعني الكفر وإِنكار العلم والحكمة الإلهيين، فوجب أنْ يخسر جميع مراتبه ودرجاته، وبالتالي كل ما له من مكانة عند الله سبحانه وتعالى، ولهذا أخرجه الله عز وجل من ذلك المقام الكريم، وجرّده من تلك المنزلة السامقة التي كان يتمتع بها في صفوف الملائكة، فقال له: {قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنْ الصَّاغِرِينَ}([3]).
وهذا ما بيَّنه الإمام عليه السلام في "الخطبة القاصعة" عند ذمّه للتكبر والعجب بقوله: "فاعتبروا بما فعل الله بإِبليس إذْ أحبط عمله الطويل، وجهده الجهيد، وكان قد عبد الله ستة آلاف سنة... عن كبر ساعة واحدة، فمن ذا بعد إِبليس يسلَم على الله بمثل معصيته كلا، ما كان الله سبحانه ليدخل الجنّة بشراً بأمر أخرج به منها مَلَكاً، إِنّ حكمه في أهل السماء وأهل الأرض لواحد"([4]).
فأمر الإمام عليه السلام في هذه الخطبة: بالاعتبار بحال إبليس الذي عبد الله ستة آلاف سنة ; لا يُدرى أمن سني الدنيا أم من سني الآخرة، ومما لا شك فيه أنَّ قول: "لا يُدرى" فيه حكمة قد لا يهتدي إليها الناس، إذْ لا يعقل أنَّ الإمام عليه السلام تخفى عليه هذه السنين فلا يعرف من أيٍّ السنين هي، قال ابن أبي الحديد: "وهذا يدلُّ على أنه قد سمع فيه نصاً من رسول صلى الله عليه وآله وسلم مجملاً لم يفسره له، أو فسره له خاصة، ولم يفسره أمير المؤمنين عليه السلام للناس لما يعلمه في كتمانه عنهم من المصلحة"([5]).
وفي هذا السياق أورد صاحب الأمثل بعضاً من كلام الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة، الذي أمر من خلاله بالاعتبار بإبليس في تفسيره لقوله تعالى: {قَالَ مَا مَنَعَكَ ألاّ تَسْجُدَ إذ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّار وَخَلَقْتَهُ مِن طِين}([6])، وغيرها من الآيات التي جاءت في سياقها، وقد توصل إلى حقيقة أنَّ الشيطان ارتقى الدرجات العُلا ونال شرف العيش بين صفوف الملائكة نتيجة لطاعته السابقة للّه عزَّ وجلّ، حتى أنّ البعض قال عنه: إنّه كان معلماً للملائكة إلى، مفيداً ذلك كله من خطبة الإمام المسماة "بالقاصعة"([7]).
الأمر الذي يكشف بوضوح أثر نهج البلاغة في هذا التفسير، إذْ استدل الشيخ في موضع آخر من تفسيره بالخطبة القاصعة في (نهج البلاغة) أنّه عبد اللّه عزَّ وجلّ آلاف السنين، لكن شراك التعصب الأعمى وعبادة هوى النفس المهلك قد أدّيا إلى خسرانه كل ذلك في لحظة تكبر وغرور([8]).
وغير ذلك من الشواهد المبثوثة في تفاسير الإمامية، التي توزعت على مستويات عدَّة، اختصر الباحث فيها على المستوى العقائدي، والمستوى التعبدي، والمستوى الأخلاقي، بوصفها جامعة لأكثر عينات الأثر، مما يظهر للقارئ أنَّ لنهج البلاغة أثراً كبيراً في العملية التفسيرية برمتها، ولا أدعي هنا أنَّني أحطتُ بكل ما هو موجود في هذه التفاسير على كل هذه المستويات، وذلك لعظمة كتاب نهج البلاغة، وكثرة ما تناوله المفسرون من خطب وأقوال ووصايا وكتب، وقصار الحكم، آملا أنْ تتاح الفرصة لباحث آخر لإكمال المشوار، وإتمام المهمة، والعون منه وحده)[9].
الهوامش:
([1]) الأعراف، 11، 12.
([2]) ظ : الأمثل، 4/ 585.
([3]) الأعراف 13.
([4]) نهج البلاغة، 2/ 138.
([5]) شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، 13/ 133.
([6]) ص، 76.
([7]) ظ : الأمثل، 4/ 585.
([8]) ظ : الأمثل، 8/ 65.
([9] )لمزيد من الاطلاع ينظر: أثر نهج البلاغة في تفاسير الإمامية، الشيخ محسن الخزاعي، طبعة مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة: ص 212-215.