الأخلاق من نهج البلاغة: الاستماتة في الحق وصدق التضحية لنصرة الدين

مقالات وبحوث

الأخلاق من نهج البلاغة: الاستماتة في الحق وصدق التضحية لنصرة الدين

165 مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 20-03-2025

بقلم: الشيخ محسن المعلم

((الحمد لله كما هو أهله، والصلاة والسلام على هداة الخلق إلى الحق، محمد وآله الطاهرين))

وبعد:
«وَلَقَدْ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ نَقْتُلُ آبَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا وَإِخْوَانَنَا وَأَعْمَامَنَا مَا يَزِيدُنَا ذَلِكَ إِلَّا إيماناً وَتَسْلِيماً وَمُضِيّاً عَلَى اللَّقَمِ([1]) وَصَبْراً عَلَى مَضَضِ([2]) الْأَلَمِ وَجِدّاً فِي جِهَادِ الْعَدُوِّ وَلَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ مِنَّا وَالْآخَرُ مِنْ عَدُوِّنَا يَتَصَاوَلَانِ تَصَاوُلَ الْفَحْلَيْنِ يَتَخَالَسَانِ([3]) أَنْفُسَهُمَا أَيُّهُمَا يَسْقِي صَاحِبَهُ كَأْسَ المَنُونِ فَمَرَّةً لَنَا مِنْ عَدُوِّنَا وَمَرَّةً لِعَدُوِّنَا مِنَّا فَلَمَّا رَأَى اللهُ صِدْقَنَا أَنْزَلَ بِعَدُوِّنَا الْكَبْتَ وَأَنْزَلَ عَلَيْنَا النَّصْرَ حَتَّى اسْتَقَرَّ الْإِسْلَامُ مُلْقِياً جِرَانَهُ([4]) وَمُتَبَوِّئاً أَوْطَانَهُ»([5]).
وفي هذ النص المصور المعبر وقفات تأمّل ومواطن اعتبار.
الأولى: ظرف المقال:
فقد كان هذا الخطاب المفعم بروح الفداء ونبض الجهاد أيام صفين العصيبة حيث دب الوهن في صفوف جيشه فمالوا إلى الصلح وارتاحوا إلى الدعة.

الثانية: لابد للحق من قوة:
فلما صدع رسول الله بدعوة الحق قام في وجهه الأقربون والأبعدون وتظافر الكل على وأده في مهده. فلولا نصرة الخلّص الأوفياء لما نهض وقام. إذن فلابد له من قوة تحمي حماه وترد عنه عوادي الكفر، وتعز أولياء الحق.

الثالثة: التضحية بالنفس برهان الإيمان العميق:
فالمقدسات تفوق كل اعتبار، والحقائق تسمو على وشائج القربى ولحمة الدم والنسب.
وذلكم مبدأ أصّله القرآن الكريم في تربيته الروحية:
{لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِالله وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإيمان وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَٰئِكَ حِزْبُ الله أَلَا إِنَّ حِزْبَ الله هُمُ المُفْلِحُونَ}([6]).
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ! إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ ! لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}([7]).
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}([8]).
هذا والكافر مستميت في نصرة ما يؤمن به حقاً -وهو في واقعه باطل- فجدير بالمؤمن أن يكون فداؤه لما يؤمن به حقاً أصدق وقعًا وأشد مضاءً وأمضى أثرًا.

الرابعة: ولينصرن الله من ينصره:
وقد تجلى النصر المؤزر وجاء الفتح المبين من الله لدينه ورسوله وحماة شرعه، وتاريخ الإسلام في حروبه وغزواته وسراياه تشرق صفحاته بأبعاد ذلك وأمجاده {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله}([9]).

الخامسة: وبذلك ثبتت أركانه وقامت دعائمه:
وإنه لمن المعجز حقًّا ذلكم التحول العجيب مما كان عليه أمر الإسلام في نشوئه في مكة إلى ارتقائه في المدينة خلال فترة قصيرة فإذا الفتح يستتبع فتحاً والنصر يعقب نصراً وتدور الدائرة على أولئك الأسياد عتاة قريش ومردة أهل النفاق فإذا بهم الأذلاء تقتلهم غلمانهم وعبيدهم المعذبون بأيديهم، وإذا بمن طَرَدُوا رسول الله صلى الله عليه وآله من مأمنه وموطنه يعودون اليوم في مأمنهم وموطنهم تحت قبضته أرواحُهم وأنفاسُهم، ورأوا من عزّ الإسلام ما أذلّهم وحطّ كبرياءهم وإنه العفو عند المقدرة فيعيد لهم الحياة: «اذهبوا فأنتم الطلقاء» وذلكم في ملحمة الفتح المبين.
 «وَلَعَمْرِي لَوْ كُنَّا نَأْتِي مَا أَتَيْتُمْ مَا قَامَ لِلدِّينِ عَمُودٌ وَلَا اخْضَرَّ لِلْإيمان عُودٌ وأَيْمُ اللهِ لَتَحْتَلِبُنَّهَا دَماً وَلَتُتْبِعُنَّهَا نَدَماً»([10]).
ويقرر الإمام (عليه السلام) في هذا المقطع الأخير حقائق:
الأولى: يقسم جازماً بأن الدين العظيم ما كان ليضرب جرانه لولا صدق التضحية وخالص الفداء من ذوي البلاء الحسن الجميل ممن بذلوا أرواحهم في إقامة دين الله وإحياء أمره، ولو كان من آمن به يصنع كما تصنعون اليوم لوئد في مهده ولم تثبت له قدم.
الثانية: الإجلال والإكبار لأولئك الحماة المجاهدين والغيارى الباذلين فقد صدقوا ما عاهدوا عليه فحازوا الفخر والإعظام وتاج الكرامة)([11]).

الهوامش:
([1]) اللقم: معظم الطريق أو جادته.
([2]) المضض: لذعته وبرحائه.
([3]) التخالس: طلب كل واحد اختلاس روح الآخر.
([4]) الجران: مقدم العنق من المذبح إلى المنحر.
([5]) خ 56 /91-92.
([6]) سورة المجادلة /22.
([7]) سورة الممتحنة /1-3.
([8]) سورة التغابن /14.
([9]) سورة البقرة /249.
([10]) خ 56 /92.
([11]) لمزيد من الاطلاع ينظر: الأخلاق من نهج البلاغة: الشيخ محسن علي المعلم، العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة، ط1، ص184-187.

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.3069 Seconds
BESbswy