بقلم: السيد نبيل الحسني
في محاولة أخرى من المحاولات البائسة من الدليل العلمي، يغالط الراغب الأصفهاني في دلالة الإرث في القرآن والسُنَّة، وفي ظاهرة أخرى من مظاهر تضافر الأمة على هضم فاطمة (عليها السلام).
ومصداقها في سلوك أعلام أهل السُنَّة والجماعة ودفاعهم المستميت عن خصم فاطمة (صلوات الله وسلامه عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها) في مصادرة أموالها، وانتهاك حرمتها.
فيقول في استدلاله لنفي المال في قوله تعالى {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ}:
(ألا ترى أنه [صلى الله عليه وآله وسلم] قال:
«إنا معاشر الأنبياء لا نورِّث، ما تركنا صدقة»، وما روى عنه [صلى الله عليه وآله وسلم] من قوله:
«العلماء ورثة الأنبياء» فأشار الى ما ورثوه من العلم؛ واستعمل لفظ الوَرَثَة لكون ذلك بغير ثمن ولا منّة، وقال لعلي [عليه الصلاة والسلام]: «أنت أخي ووارثي؛ قال: وما أرثك؟ قال: ما ورثت الأنبياء قبلي، كتاب الله وسُنَّتي»[1].
ووصف الله تعالى نفسه بأنّه الوارث من حيث أن الأشياء كلها صائرة الى الله تعالى، قال الله تعالى:
{وَللهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [سورة آل عمران/180]، وقال: {وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ} [سورة الحجر/23]، وكونه تعالى وارثاً لما روي:
«إنّهُ ينادي لمن الملك؟ فيقال لله الواحد القهار»[2].
ويقال: ورثت علماً من فلان، أي استفدت منه، قال تعالى:
{ورِثُوا الْكِتَابَ} [سورة الشورى/14] {أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ} [سورة الشورى/14] {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ} [سورة فاطر/32] {يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [سورة الأنبياء/105].
فإن الوارثة الحقيقة هي أن للإنسان شيء لا يكون عليه فيه تبعة، ولا عليه محاسبة، وعباد الله الصالحون لا يتناولون شيئاً من الدنيا إلا بقدر ما يجب وفي وقت ما يجب وعلى الوجه الذي يجب، ومن تناول الدنيا على هذا الوجه لا يحاسب عليها ولا يعاقب؛ بل يكون ذلك له عفوا صفوا، كما روى أنه:
(من حاسب نفسه في الدنيا لم يحاسبه الله في الآخرة)[3].
أقول:
يمكن لنا أن نجمل القول فيما أستدل به الراغب الأصفهاني لدفع القارئ عن ظلامة فاطمة (عليها السلام) وإشغاله بتعدد ألفاظ مفردة (الإرث) في بعض النقاط، وهي على النحو الآتي:
1- اَستدل بحديثين شريفين للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في دلالة أن الإرث في الآية هو العلم، فأما الأول فقد تمت مناقشته سابقاً وبينا عدم صلاح الاحتجاج به على منع النبوة للإرث؛ وأما الحديث الثاني، أي قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) في وراثة الإمام علي (عليه الصلاة والسلام) للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فالذي يهمنا في الحديث أمران، وهما:
أ- ثبوت وراثة الإمام علي (عليه السلام) لعلم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وكتاب الله وسُنّته وإقراره بذلك، ومن ثم فالسؤال المطروح في البحث: لماذا أبعده أهل السقيفة عن خلافة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وكتاب الله وسُنَّة رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فبمَ كان يتعبد السلف وقد تركوا وارث كتاب الله وسُنّة رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟!
ب- إنّ التحريف في هذا الحديث ظاهر كظهور الشمس في رابعة النهار، وذلك عِبْرَ زج مفردة وسُنّتي في الحديث، وذرّ الرماد في وجه من يقول بحديث الثقلين ((كتاب الله وعترتي أهل بيتي)) وإلا كيف يصح أن الأنبياء قد ورثوا القرآن وسُنّة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو الخاتم للنبوة؟
ومن ثم فإن المقام يقتضي أن يكون الحديث بصيغة مستقيمة وغير مضطربة، فلاحظ سؤال الإمام علي وجواب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) له:
قال (عليه السلام): «وما أرثك؟».
قال: «ما ورثت الأنبياء من قبلي، كتاب الله وسنتي»!!
ومن ثم فقد أرجعنا الحديث إلى مضانّه فوجدناه بلفظ آخر، فقد أخرجه الضحّاك (ت 287هـ) وغيره، عن زيد بن أبي أوفى، في بيان حادثة المؤاخاة بين الصحابة، فقد آخى بينهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وترك الإمام علي (عليه السلام) لنفسه، فقال (عليه السلام):
(«يا رسول الله، ذهبت روحي، وانقطع ظهري حين رأيتك فعلت بأصحابك ما فعلت، غيري فإن كان من سخطة عَلَي فلك العتبى والكرامة».
قال: «والذي بعثني بالحق، ما اخترتك إلا لنفسي، فأنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلّا أنّه لا نبي بعدي، فأنت أخي ووارثي».
قال: «يا رسول الله ما أرث منك؟».
قال: «ما ورث الأنبياء (عليهم السلام) قبلك قال كتاب الله عز وجل وسنة نبيهم أنت أخي ورفيقي»، ثم تلا رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم) الآية {إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [سورة الحجر/47]، الأخلاء في الله ينظر بعضهم إلى بعض)[4].
وعند البحث في سياق اللفظ الشريف اتضح أنّ مفردة (الأنبياء) هي تصحيف لكلمة (الأوصياء)، فهم الذين ورثوا كتاب الله وسُنّة أنبيائهم في كل زمان ومكان بُعثوا فيه.
إلّا أن المصنّف أو الناسخ وجد أن كلمة (الأوصياء) تعارض موروثة العقدي ونسقه الثقافي الذي درج عليه أسلافه ومشايخه وأعلامه فصحفه إلى (الأنبياء) وغفل عن أنّه قد أفضح نفسه عِبْرَ الإخلال بسياق النص الشريف ودلالته واتساقه مع ضوابط اللغة وعلومها.
2- إنَّ التغليط والتخليط في معاني الإرث ودلالاته في القرآن قد بدت جلية في كلام الراغب الأصفهاني، فمن الاستدلال بالأحاديث النبوية على أن الإرث هو: (العلم، وإن الأنبياء لا يورِّثون)، إلى القول:
(بأنّ الله تعالى وصف نفسه بأنه الوارث من حيث أن الأشياء كلها صائرة إليه).
ومن ثم: فما علاقة مفهوم صيرورة الأشياء وانتقالها إلى الله تعالى بمفهوم أن الإرث فيما بين الأنبياء هو العلم؟!!
وبين قوله عز وجل: {وَللهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} وقوله سبحانه: {وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ} وبين قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ} و{يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ}، فمن هو الوارث الموصوف بصيرورة الأشياء وانتقالها إليه، أهو الله تعالى أم عباده الصالحون؟!!، وهل هو العلم وحده أم أن الأشياء كلها مردها الى الله تعالى؟!!
3 ـ إنّ من أعجب المغالطات في أقوال الراغب الأصفهاني، هي قوله:
(وكونه تعالى وارثاً لما روي: أنه ينادي لمن الملك اليوم؟ فيقال لله الواحد القهار)، وهنا ثمة استفهامات، وهي:
أ ـ هل النداء (لمن العلم) أم (لمن الملك)؟!
فإذا كان (لمن الملك) فهذا ينص على أن الإرث هو المال بجميع أنواعه وأصنافه وأجناسه وهو ما عليه مبنى الأحكام في الفرائض لدى المذاهب الإسلامية.
وإذا كان العلم - وهو محال أن يكون ذلك- فهذا ينص على بقاء الملكية للطواغيت والفراعنة والملاحدة والجهال وأهل الرذائل والشهوات والملذات وغير ذلك، وعدم زوال ملكيتها عنهم، ومن ثم كيف يصح النداء: لم الملك اليوم؟!!
ب ـ إن الضابطة لدى فقهاء المذاهب الإسلامية جميعاً في الإرث والفرائض هي: زوال الملكية وانتقالها الى الورثة بوفاة صاحب المال والمالك له، وقد نص الحديث على لفظ (الملك) الذي يتم زواله، أي: الملكية بعد وفاة جميع ما خلق الله تعالى، فلا مالك يومئذ إلا الله الواحد القهّار.
وهو عينه ما قررته الشريعة في الفرائض، أي: زوال الملكية، وليس العلمية فما لكم كيف تحكمون، بل {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ للهِ وَقَارًا} [سورة نوح/13].[5]
الهوامش:
[1] الآحاد والمثاني للضحّاك: ج5 ص32.
[2] المفردات في غريب القرآن: ص519؛ وقد روى الحديث البيهقي في شعب الإيمان: ج1 ص311.
[3] المفردات في غريب القرآن: ص 519.
[4] الآحاد والمثاني للضحّاك: ج5 ص172؛ المعجم الكبير للطبراني: ج5 ض221؛ الأمالي للشيخ الصدوق: ص427.
[5] لمزيد من الاطلاع ، ينظر : معارضة حديث لا نورث للقرآن والسُنّة واللغة ، السيد نبيل الحسني : ص141– 147، إصدار مؤسسة علوم نهج البلاغة / العتبة الحسينية المقدسة ، ط1 لعام 2022م