بقلم : السيد نبيل الحسني الكربلائي .
«الْحَمْدُ لِلَّه الَّذِي لَا تُدْرِكُه الشَّوَاهِدُ ، ولَا تَحْوِيه الْمَشَاهِدُ ،ولَا تَرَاه النَّوَاظِرُ ،ولَا تَحْجُبُه السَّوَاتِرُ»[1] ، وصلواتهُ التامات الزاكيات على حبيبه محمد وعلى أهلِ بيته «أَسَاسُ الدِّينِ وعِمَادُ الْيَقِينِ ، إِلَيْهِمْ يَفِيءُ الْغَالِي وبِهِمْ يُلْحَقُ التَّالِي ، ولَهُمْ خَصَائِصُ حَقِّ الْوِلَايَةِ ، وفِيهِمُ الْوَصِيَّةُ والْوِرَاثَةُ»[2]، وسلم تسليما كثيرا.
أَمَّا بَعْدُ:
لفهم إستراتيجية الهدف العسكري والهدف المعنوي عند الإمام الحسين عليه السلام يلزم قراءة هذين الهدفين عند خصمه فبالتضاد تعرف الصفات.
ولذلك:
فإن أقرب صورة حديثة لقراءة الهدف العسكري عند القيادة العليا لمعسكر أعداء الإمام الحسين عليه السلام ممثلاً برأس السلطة يزيد بن معاوية وواليه على الكوفة عبيد الله بن زياد([3]) هي نظرية القائد العسكري كلاوزفيتز[4] عن الهدف العسكري؛ يقول كلاوزفيتز:
(إن هدف العمل الحربي هو نزع سلاح العدو، وسنثبت أن ذلك ضروري على الأقل من الناحية النظرية؛ وإذا كانت غايتنا هي دفع العدو إلى السير وفق إرادتنا، فإن علينا أن نضعه في موقف يزيد تأثيره عن التضحيات التي نطلبها منه؛ ولا يجب أن تكون مساوئ موقفه مرحلية، على الأقل في مظهرها، وإلا قاوم العدو بدل الخضوع آملا أن يتطور الموقف لصالحه ويجب أن تؤدي تبديلاته التي ترمي إلى متابعة الحرب إلى موقف أسوأ).
ويقول: (إن أسوأ وضع يقع فيه المقاتل هو عندما يجد نفسه مجرداً من سلاحه؛ فإذا أردنا إجبار العدو على الاستسلام وجب علينا تجريده من سلاحه أو وضعه في موقف يهدده باحتمال تجريده منه وهكذا فيجب أن يكون سلاح العدو أو هزيمته هو هدف فن الحرب).
ويقول أيضاً:
(يجب أن يكون حجم قواتنا العسكرية كبيراً ما دام هدفنا المنشود هو تدمير قوة العدو؛ وعلينا أن نعرف أن كل جهد نبذله لتدمير العدو ينعكس علينا ويؤدي إلى أسوأ النتائج في حالة الفشل).
ويقول أخيراً عن الهدف العسكري:
(ليس لدينا سوى وسيلة واحدة للحرب هي المعركة، وإن الحل الدموي للأزمة بعد الجهد المبذول لتدمير جيوش العدو هو ابن الحرب البكر)([5]).
إن هذه الأسس في نظرية الهدف العسكري تكاد تكون موحدة عند معظم القادة العسكرين الذين يطمحون للحسم العسكري في حروبهم مستفيدين من المعركة بكونها الوسيلة التي تحقق الهدف العسكري.
وهو ما نطقت به صنوف جيش عمر بن سعد في كربلاء فقد كانت الكثرة العددية وصفوف الجيش وتنوع العدة القتالية والإصرار على قتل جميع أفراد الخصم وإن كانوا قلة قليلة هو الهدف الأوحد لدى خصوم الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء.
وفي المقابل لم يكن الإمام الحسين عليه السلام في غفلة عن هذه التوجهات والطموحات في تحقيق الهدف العسكري الذي يسعى إليه عدوه، ولذا: عزم على وضع إستراتيجية معقدة على المستوى العسكري في ذراعي المعركة، أي الهجوم والدفاع، وتكبيد العدو خسائر عظيمة فضلاً عن تأسيسه لمنظومة إستراتيجية (هجومية دفاعية) لكل من أراد أن ينهل من علوم مدرسة كربلاء ويوم عاشوراء .
وعليه:
كان الهدف العسكري عند الإمام الحسين عليه السلام إظهار عجز العدو ذي الامتيازات العسكرية في كثرة العدد وصنوف الجيش وتشكيلاته حينما سيواجهه عليه السلام مع مجموعة من الرجال تفوق هذه الجيوش روحاً معنوية وعقيدة قتالية منطلقا في هذه الإستراتيجية من القرآن الكريم الذي أسس للهدف المعنوي قبل الهدف العسكري، بل جعل القرآن الهدف العسكري نافذة على تحقيق الهدف المعنوي فقال سبحانه وتعالى:
1 - {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ}([6]).
2 - وقوله تعالى:
{مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَ تْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ}([7]).
ولعل الرجوع إلى القرآن والكتب السماوية وحياة الأنبياء عليهم السلام التي قادت بعض المواجهات بين أتباعها وأعدائها يقدم لنا صورة واضحة عن الهدف المعنوي الذي كان غاية الأنبياء والرسالات.
من هنا:
كان التباين واضحاً في مدرسة عاشوراء بين الهدف العسكري والهدف المعنوي الذي سعى لأجل إثباته الإمام الحسين عليه السلام، وذلك من خلال مجموعة من الأسس والخطوات النظرية والعملية، منذ تحركه من مكة متوجهاً إلى كربلاء فكتب رسالة إلى أخيه محمد بن علي بن أبي طالب عليه السلام وبني هاشم خاصة دون غيرهم من المسلمين مستناً بذلك بما أمر الله تعالى به رسوله الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم عند بدء الدعوة إلى الإسلام ، فقال سبحانه مخاطباً نبيه الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم:
{وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ}([8]).
ولذا: كان خطاب الإمام الحسين عليه السلام عند خروجه من مكة إلى كربلاء مخصصاً إلى بني هاشم خاصة لأنهم هم المعنيون بالدرجة الأولى في الإنذار والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فكان الكتاب يحمل الهدف المعنوي قبل الهدف العسكري وهو المنهج الذي اعتمده سيد الشهداء صلوات الله وسلامه عليه في مسيره إلى العراق.
فعن زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام قال:
«كتب الحسين بن علي من مكة إلى محمد بن علي:
بسم الله الرحمن الرحيم، من الحسين بن علي إلى محمد بن علي ومن قبله من بني هاشم، أما بعد: فإن من لحق بي استشهد، ومن لم يلحق بي لم يدرك الفتح والسلام»([9]).
ولا شك أن الذين لحقوا به عليه الصلاة والسلام قد استشهدوا جميعاً وهم الوحيدون الذين أدركوا الفتح فبهم تم التأسيس لعقيدة ما تسلح بها أحد من الناس إلاّ وقد فتح عليه النصر فبهذه العقيدة أزيلت طواغيت وقامت دول فضلاً عن كونها ملهماً للأحرار في العالم حينما يقرأون عاشوراء.
وهو ما سنحاول الوقوف عنده ووفهمه عبر دراسة الإستراتيجية الحربية لمعركة عاشوراء علنا نستطيع أن نوصل رؤية واضحة للمهتمين بالإستراتيجية البنائية للنفس الإنسانية؛ فضلاً عن الإستراتيجية العسكرية أو فلنقل بالمعنى الأعم الإستراتيجية الحربية فما زال الإنسان في صراع مع ذاته وهو بحاجة إلى وضع مجموعة من الإستراتيجيات للوصول إلى الهدف المنشود وهو الانتصار على الذات وهو ما زخرت به عاشوراء منذ أن خرج الإمام الحسين عليه السلام من المدينة إلى اللحظات الأخيرة له على أرض كربلاء، من شعارات في نطاق الحكمة النظرية والحكمة العملية.
كقوله:
1. «إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسير بسيرة جدي وأبي علي بن أبي طالب».
2. «ما الإمام إلا العامل بالكتاب، والآخذ بالقسط، والدائن بالحق، والحابس نفسه على ذات الله».
3. «لا محيص عن يوم خط بالقلم».
4. «إلا من كان فينا باذلاً مهجته موطناً على لقاء الله نفسه فليرحل معنا».
5. «إن حال القضاء دون الرجاء فلم يعتد من كان الحق نيته والتقوى سريرته».
6. «أما والله إني لأرجو أن يكون خيراً ما أراد الله بنا قتلنا أم ظفرنا».
7. «الناس عبيد الدنيا، والدين لعق على ألسنتهم، يحوطونه ما درت معايشهم، فإذا محصوا بالبلاء، قلّ الديانون».
8. «فإني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برما».
9. «لا أفلح قوم اشتروا مرضاة المخلوق بسخط الخالق».
10. «لا والله لا أعطيهم بيدي إعطاء الذليل، ولا أفر فرار العبيد».
11. «هيهات منا الذلة، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون وحجور طابت وطهرت وأنوف حمية ونفوس أبية في أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام».
12. «كونوا أحراراً في دنياكم».
وغيرها مما روي عنه عليه السلام في يوم عاشوراء وقبله فهذه الأسس في الإستراتيجية البنائية للنفس الإنسانية وغيرها مما نطقت به الألسن والأيدي في كربلاء لكثيرة جداً وكلها جديرة بالتأمل والدراسة والبحث إلا أننا سنحاول الوقوف عند كثير منها علنا نوفق في الوصول إلى حضارة الحياة وتجنيد الفكر قبل تفكير الجند في الحسم العسكري[10].
الهوامش:
[1] نهج البلاغة، الخطبة: 185 ، بتحقيق صبحي الصالح: ص269
[2] نهج البلاغة الخطبة: 2
([3]) عليهما لعنة الله وملائكته ورسوله والناس أجمعين لما أنزلاه من أذى وألم على قلب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قتل ولده وسبي بناته وانتهاك حرمته.
[4] [4] كارل فون كلاوزفيتز بالألمانية ( Carl Philipp Gottlieb von Clausewitz) (ولد سنة 1780 في ماغدبورغ الألمانية وتوفي سنة 1831 في بريسلاو) جنرال ومؤرخ حربي بروسي. من أهم مؤلفاته كتاب (Vom Kriege) أي: من الحرب. تركت كتاباته حول الفلسفة والتكتيك والإستراتيجية أثرا عميقا في المجال العسكري في البلدان الغربية. تدرس أفكاره في العديد من الأكاديميات العسكرية كما أنها تستعمل في عدة مجالات مثل قيادة المؤسسات والتسويق. ويعتبر من أكبر المفكرين العسكريين شهرة وتأثيرا على مر التاريخ.
([5]) الإستراتيجية وتاريخها في العالم، تأليف: ليدل هارت: ص289.
([6]) سورة الأنفال، الآية: 65.
([7]) سورة المائدة، الآية: 32.
([8]) سورة الشعراء، الآية: 214.
([9]) كامل الزيارات لابن قولويه: ص157؛ مختصر بصائر الدرجات للحلي: ص76؛ مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب: ج3، ص230.
[10] لمزيد من الإطلاع ، ينظر: الاستراتيجية الحربية في معركة عاشوراء بين تفكير الجند وتجنيد الفكر ، السيد نبيل الحسني : ص33 – 39 أصدار العتبة الحسينية المقدسة ، ط 1/ مؤسسة الأعلمي –بيروت ، لسنة 2014م – 1435هـ