بقلم : السيد نبيل الحسني الكربلائي.
«الْحَمْدُ لِلَّه الَّذِي لَا تُدْرِكُه الشَّوَاهِدُ ، ولَا تَحْوِيه الْمَشَاهِدُ ،ولَا تَرَاه النَّوَاظِرُ ،ولَا تَحْجُبُه السَّوَاتِرُ»[1] ، وصلواتهُ التامات الزاكيات على حبيبه محمد وعلى أهلِ بيته «أَسَاسُ الدِّينِ وعِمَادُ الْيَقِينِ ، إِلَيْهِمْ يَفِيءُ الْغَالِي وبِهِمْ يُلْحَقُ التَّالِي ، ولَهُمْ خَصَائِصُ حَقِّ الْوِلَايَةِ ، وفِيهِمُ الْوَصِيَّةُ والْوِرَاثَةُ»[2]، وسلم تسليما كثيرا.
أَمَّا بَعْدُ:
لو أردنا أن ننظر إلى محلٍ جمعت فيه كل الكمالات والقيم الأخلاقية السماوية لكان هذا المحل هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ ولو أردنا أن ننظر إلى هذا الإرث لمن انتقل وفيمن حل - ما خلا النبوة والوصاية - لوجدناه عند الحسين عليه السلام؛ بل لقد ضم بين جنبيه إرث أصحاب الكساء فكان الدال عليهم والقائد إليهم.
ولو أردنا أيضاً أن نبحث عن البراءة، لوجدناها متألقةً في الطفولة، تشع بأنوارها بين تلك السنين الأولى التي يقضيها الطفل.
فكان من عجائب كربلاء وتفردها في وقوع الأحداث أن تجتمع القيم والبراءة في محل واحد لتقدم مشهداً - لا نبالغ إن قلنا إنه لا يتجدد - وإن طال الزمن.
فتأمل فيه فياله من مشهد عجيب!.
حين سقط الحسين عليه السلام من على جواده إلى الأرض، فلبث المجرمون عنه هنيئة، ثم عادوا إليه وأحاطوا به وهو جالس - بأبي وأمي - على الأرض لا يستطيع النهوض.
في هذه اللحظات كان عبدالله بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام وله إحدى عشرة سنة، واقفاً بباب الخيمة فنظر إلى عمه وقد أحدق به القوم، فأقبل يشتد نحوه، وأرادت عمته زينب حبسه فأفلت منها وجاء إلى عمه الحسين عليه السلام؛ فرأى بحر بن كعب قد أهوى بالسيف ليضرب الحسين عليه السلام؛ فصاح الغلام: يا ابن الخبيثة أتضرب عمي؟.
فغضب بحر بن كعب وحول الضربة إليه فاتقاها الغلام بيده، فأطنها السيف إلى الجلد، فإذا هي معلقة. فصاح الغلام: يا عماه! ووقع في حجر الحسين عليه السلام، فضمه إليه وقال: «يا ابن أخي أصبر على ما نزل بك واحتسب في ذلك الخير فإن الله تعالى يلحقك بآبائك الصالحين»([3]).
ولم يكتفوا بهذا الفعل ولم يشفِ غليلهم المتأجج بنيران البغض لآل محمد صلى الله عليه وآله وسلم هذا الصنيع فعمدوا على قتل الغلام الجريح وهو في حجر عمه الحسين عليه السلام بأبشع طريقة إذ رماه حرملة بن كاهل الأسدي بسهم فذبحه بحجر عمه ([4]).
وإني لا أعلم أأعجب من دفاع هذا الغلام عن القيم المحمديّة ونحره على أعتابها، أم أعجب من صبر الحسين عليه السلام. أم من تصبيره وقوله لهذا الغلام الذي بقيت يده معلقة بالجلد «يا ابن أخي اصبر على ما نزل بك» أم أعجب من إقرانه عليه السلام للصبر بالاحتساب في حربه للظالمين وهو في هذه الحالة التي تنهار فيها همم الرجال، لكن قلبه عليه السلام لم يفارق الله بل يعلم هذا الغلام سبيل الالتحاق بآبائه الصالحين.
فينكشف عندها مشهد آخر من الجمال، يتجلى فيه جمال الصبر في الاحتساب، ليتعانق مع جمال البراءة حينما تنحر على أعتاب القيم[5].
الهوامش:
[1] نهج البلاغة، الخطبة: 185 ، بتحقيق صبحي الصالح: ص269
[2] نهج البلاغة الخطبة: 2
([3]) ورفع الإمام يديه قائلا: «اللهم إن متعتهم إلى حين ففرقهم تفريقا واجعلهم طرائق قداداً ولا ترض الولاة عنهم أبداً فإنهم دعونا لينصرونا ثم عدوا علينا يقاتلونا».
([4]) البحار للمجلسي: ج 45، ص 53. العوالم، الإمام الحسين عليه السلام: ص 296. تاريخ الطبري: ج4، ص 344. مقتل الحسين عليه السلام لأبي مخنف: ص 191. الدر النظيم لابن حاتم العاملي: ص557. أبصار العين للسماوي: ص 74.
[5] لمزيد من الاطلاع : ينظر: الجمال في عاشوراء ، السيد نبيل الحسني ، ط2 مؤسة الاعلمي بيروت / إصدار العتبة الحسينية المقدسة ، لسنة 2009م ، ص: 194