بقلم : السيد نبيل الحسني الكربلائي.
«الْحَمْدُ لِلَّه الَّذِي لَا تُدْرِكُه الشَّوَاهِدُ، ولَا تَحْوِيه الْمَشَاهِدُ، ولَا تَرَاه النَّوَاظِرُ، ولَا تَحْجُبُه السَّوَاتِرُ»[1] ، وصلواتهُ التامات الزاكيات على حبيبه محمد وعلى أهلِ بيته «أَسَاسُ الدِّينِ وعِمَادُ الْيَقِينِ، إِلَيْهِمْ يَفِيءُ الْغَالِي وبِهِمْ يُلْحَقُ التَّالِي، ولَهُمْ خَصَائِصُ حَقِّ الْوِلَايَةِ، وفِيهِمُ الْوَصِيَّةُ والْوِرَاثَةُ»[2]، وسلم تسليما كثيرا.
أَمَّا بَعْدُ:
ربما قد مرّ على كثير من القراء صفة جمال الإمام الحسين عليه السلام؛ إلاّ أنّ هذا لا يمنع من رصد جماله عليه السلام يوم عاشوراء.
فلقد كان هذا الجمال من الألطاف الإلهية التي تجلت في الطف لكل الناس، سواء من كانوا يقاتلون معه، أي أصحابه وأهل بيته عليهم السلام، أم أعدائه؛ ولعل سائلاً يسأل عن الفارق بين الجمالين؟ وعن كيفية ظهور هذا التجلي لكل من حضر المعركة؟.
والجواب:
هو أنّ الرجال والنساء تتغير ملامحهم عند نزول المصائب، واشتداد الابتلاءات، وعظيم الرزايا، بين النحول، واصفرار الوجه، والاضطراب الشديد، وارتفاع ضغط الدم، وارتعاد الفرائص، وارتجاف الأرجل، ونشفان الريق، وحبس الصوت، وسرعة ضربات القلب، وبرودة الأطراف، وتشتت الفكر، وضياع الكلمات، وتسمر العيون، وتكسر الأنفاس، واضطراب الحواس.
بل قد يؤدي المصاب بكثير من الناس بالخروج عن الطور، والتحول إلى مخلوق جديد لا يعي ما يقول ولا يدرك ما يفعل، ناهيك عن الإغماء أو حتى الوفاة والانتهاء بجثة هامدة.
وربما يصل حد التأثر عند كثير من الناس إلى الإصابة بعاهة دائمة كالشلل أو العمى، وهو لم يلحظ بأم عينه المصيبة، وإنما لمجرد السماع أنها نزلت بعزيز له؛ وهو ما يرافق بعض الأمهات.
لكن.. كيف هو تأثير المصاب في جمال ريحانة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟.
هل افقده جماله المعهود؟.
هل تغيرت ملامح الحسن الذي لم يرَ مثلها؟.
هل بقي على تلك الهيئة التي تملأ العين والقلب؟!.
كيف كان الحال الذي عليه قرة عين الزهراء وسبط النبي صلى الله عليه وآله؟.
أنها.. صورة جمعت بين أطرافها جمالاً وحسناً لم تلتقط عين البشر صورة مثلها؛ فقد تفردت بملامحها وحسنها، كتفرد صاحبها بعظيم مصائبه، وتعدد رزاياه؛ فكان كلما نزل به البلاء والمصاب بدا الجمال يتجلى في وجهه أكثر!.
إنّ هذه الصورة الفريدة في حسنها وجمالها قد شغلت فكر من قدم لقطع رأسه عليه السلام، فوقف القاتل مبهوراً مشغولاً بأمرٍ قد عزل عنه الفكر، وأغلق عليه المسامع، ولم تجد عينه القدرة في الحركة، فهي شاخصة في هذا النور الذي تجلى كأنه شبح واقف أمامه، وهو يسأله: كيف ليدك أن تخترق هذا الجمال؟!.
وكم تحتاج من الوقت، لقطع كل هذا التجلي الذي جمع من آدم عليه السلام إلى محمد صلى الله عليه وآله وسلم؟!
ويلك هذه رسالات، وأمم، وكتب، وألواح، وصحائف، قد دونت على صفحات هذا النور المتدفق، من جبين قد خلق للسجود، فتوسم به مع نور النبوة والإمامة.
كلمات خيل إليه أنه يسمعها من نور جبين الإمام الحسين عليه السلام، فلم يجد لها جواباً!!.
فعاد الرجل حائراً، مشغولاً، ومن عظيم ما رأى مذهولاً، فيداه قد فقدتا قواهها.. فانحنى منها السيف إلى الأرض. يخط فيها آثار الانكسار الذي أحس به صاحبه.
لكن السيف ليس هذا حاله لما انحنى للأرض فقد قبلها شكراً لله، إذ لم يكن بيدٍ قتلت حسيناً فتصلى جهنم ونيراناً.
كلمات ليت صاحب السيف يسمعها.. ويعي ما قدم عليه أهل الظلم والعدوان.
فتلقاه الجمع محتارا فيما راه من رجوع منكسر متسائلا: مالك عدت خائباً، وعن قتل الحسين معرضاً؟ فرد عليهم قائلاً:
«وقفت عليه وأنه ليجود بنفسه، فوالله ما رأيت قط قتيلاً مضمخاً بدمه أحسن منه، ولا أنور وجهاً، ولقد شغلني نور وجهه وجمال هيبته عن الفكرة في قتله»([3]).
فكان هذا حال بعض أعدائه فيما رأوا من تجليات جماله! فكيف هو حال من بقي من أهل بيته ، كيف حال أخواته وبناته ، بل كيف كان حال بضعة فاطمة عليهما السلام وهي تنظر إلى العسكر وقد أحاط به فبدا نوره يخترق منافذ جموعهم وتعالي أيديهم فتمازج بريق سيوفهم مع نور وجه وجبينه.. السلام على نور المستوحشين في الظلم[4].
الهوامش:
[1] نهج البلاغة، الخطبة: 185، بتحقيق صبحي الصالح: ص269
[2] نهج البلاغة الخطبة: 2
([3]) اللهوف في قتلى الطفوف لابن طاووس: ص 75، ط أنوار الهدى بقم. مثير الأحزان لابن نما: ص57. مدينة المعاجز للبحراني: ج 4، ص 77. بحار الأنوار: ج 45، ص 57. العوالم - الإمام الحسين عليه السلام - ص 301. لواعج الأشجان للسيد محسن الأمين: ص 189. المجالس الفاخرة للسيد عبدالحسين شرف الدين رحمه الله: ص 329.
وقد ذكرت هذه المصادر: أن صاحب هذا القول هو (هلال بن نافع)، وإن سبب قوله هو أنه كان في جيش ابن سعد، فسمع الناس تقول إن الحسين قتل، فخرج من بين صفوف الجيش يستعلم الحال. إلاّ أن قوله: شغلني نور وجهه عن الفكرة في قتله، دليل على عزم القائل على قتل الإمام الحسين عليه السلام، لكنه لم يشأ أن يصرح بذلك، فأدعى إنه سمع الناس تقول قتل الحسين، فخرج.
[4] لمزيد من الاطلاع: ينظر: الجمال في عاشوراء، السيد نبيل الحسني، ط2 مؤسسة الأعلمي بيروت/ إصدار العتبة الحسينية المقدسة، لسنة 2009م ، ص: 196