بقلم السيد عبد الحسين الغريفي المشهدي
الحمد لله رب العالمين، ثم الصلاة والسلام على سيّد الخلق أجمعين سيدنا ونبيّنا أبي القاسم المصطفى وعلى آله الطيبين الطاهرين، واللعن الدائم على اعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين.
وبعد:
فأن مما ورد في نهج البلاغة حول الدنيا أنه عليه السلام ذكرها في خطبة وفيها يستنفر الناس إلى أهل الشام بعد فراغه من أمر الخوارج، وفيها يتأفّف بالناس وينصح لهم بطريق السداد. يقول عليه أفضل الصلاة والسلام:
أُفٍّ لَكُمْ لَقَدْ سَئِمْتُ عِتَابَكُمْ! أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الآخِرَةِ عِوَضاً؟ وبِالذُّلِّ مِنَ الْعِزِّ خَلَفاً؟ إِذَا دَعَوْتُكُمْ إِلَى جِهَادِ عَدُوِّكُمْ دَارَتْ أَعْيُنُكُمْ كَأَنَّكُمْ مِنَ الْمَوْتِ فِي غَمْرَةٍ، ومِنَ الذُّهُولِ فِي سَكْرَةٍ يُرْتَجُ عَلَيْكُمْ حَوَارِي فَتَعْمَهُونَ وكَأَنَّ قُلُوبَكُمْ مَأْلُوسَةٌ فَأَنْتُمْ لَا تَعْقِلُونَ..[1].
شرح الألفاظ الغريبة:
أُفٍّ لكم: كلمة تضجر واستقذار ومهانة؛ دوران الأعين: اضطرابها من الجزع؛ الغَمْرَة: الواحدة من الغمر وهو الستر، وغمرة الموت الشدة التي ينتهي إليها المحتضر؛ والذهول: النسيان والسهو؛ ويرتج عليكم: أي يغلق، تقول: ارتج الباب أي أغلقه؛ والحوار: المخاطب؛ وتعمهون: تتخيرون وتترددون[2].
شرح ابن ميثم البحراني:
أقول: روي أنه عليه السلام خطب بهذه الخطبة بعد فراغه من أمر الخوارج، وقد كان قام بالنهروان فحمد الله وأثنى عليه، وقال:
أمّا بعد، فإنّ الله تعالى قد أحسن بنا نصرتكم، فتوجهوا من فوركم هذا إلى عدوّكم من أهل الشام.
فقالوا له: قد نفدت نبالنا وكلت سيوفنا، ارجع بن إلى مصرنا لنصلح عدّتنا، ولعلّ أمير المؤمنين يزيد في عددنا من هلك منّا؛ لنستعين به.
فأجابهم: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ...}[3].
فتلكّؤوا عليه، وقالوا: إنّ البرد شديد، فقال: إنّهم يجدون البرد كما تجدون، أُفّ لكم، ثمّ تلا قوله تعالى: {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ... }[4].
فقام منهم ناس واعتذروا بكثرة الجراح في الناس، وطلبوا أن يرجع بهم إلى الكوفة أيّاماً، ثمّ يخرج بهم؛ فرجع بهم غير راضٍ، وأنزلهم نخيلة، وأمرهم أن يزمّلوا معسكرهم، ويوطنوا على الجهاد أنفسهم، ويقلوا زيارة أهلهم، فلم يقبلوا وجعلوا يتسللون ويدخلون الكوفة، حتى لم يبق معه إلا القليل منهم فلما رأى ذلك دخل الكوفة فخطب الناس، فقال:
أيها الناس، استعدّوا لقتال عدوّ في جهادهم القربة إلى الله، ودرك الوسيلة عنده قوم حيارى عن الحق لا ينصرونه موزعين بالجور والظلم لا يعدلون به...
واعلم أنّه عليه السلام لما أراد استنفارهم إلى الحرب – وكانوا كثيراً ما يتثاقلون عن دعوته – استقبلهم بالتأنيف والتضجر بما لا يرتضيه من أفعالهم.
وقوله: ((لقد سئمت عتابكم)): تفسير لبعض ما تأفف منه.
وقوله: أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة عوضاً، وبالذلّ من العزّ خلفاً)):
استفهام على سبيل الانكار عليهم يستلزم الحثّ الجهاد، فإنّ الجهاد لما كان مستلزماً لثواب الآخرة، ولعزّة الجانب، وخوف الأعداء ، والقعود عنه يستلزم في الأغلب السلامة في الدنيا، والبقاء فيها لكن مع طمع ال عدوّ فيهم، وذلّتهم له؛ كانوا بقعودهم عنه كمن اعتاض الدنيا من الآخرة، واستخلف الذلّ من العزّة، وذلك ممّا لا يرضى به ذو عقل سليم؛ وعوضاً وخلفاً منصوبان على التمييز.
قوله: ((إذا دعوتكم إلى جهاد عدوّكم)) إلى قوله : ((لا تعقلون)).
تبكيت لهم، وتوبيخ برذائل تعرض لهم عند دعائه لهم إلى الجهاد.
الأولى: بأنّه تدور أعينهم حيرة وتردداً وخوفاً من أحد أمرين: إمّا مخالفة دعوته، أو الإقدام على الموت، وفي كلا الأمرين خطر.
ثمّ شبّه حالتهم تلك في دوران أعينهم وحيرتهم بحال المغمور في سكرات الموت، الساهي فيها عن حاضر أحواله، المشغول بما يجده من الألم، ونحوه قوله تعالى: {يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ}[5].
الثانية: أنّه يرتج عليهم حواره، ويرتج: في موضع الحال، وتعمهون: عطف عليه، أي يرتج عليكم فتتحيرون.
ثمّ شبّه حالهم عند دعائه إلى الجهاد تشبيهاً ثانياً بحال من اختلط عقله، أي أنّهم في حيرتهم وتردّدهم في جوابه كمختلط العقل ما يفقه ما يقول[6]) ([7]).
الهوامش:
[1] نهج البلاغة لصبحي الصالح: 78/خطبة رقم 34، وفي نهج البلاغة تحقيق الشيخ العطار: 96/ خطبة رقم34، وشرح نهج البلاغة لابن ميثم 2: 76/ خطبة رقم 33، ونهج البلاغة لمحمد عبده 1: 90-92.
[2] شرح الألفاظ الغريبة: 577.
[3] المائدة: 21.
[4] المائدة: 22.
[5] الأحزاب: 19.
[6] شرح نهج البلاغة لابن ميثم البحراني 2: 77-79/ شرح خطبة رقم 33.
([7]) لمزيد من الاطلاع ينظر: الدنيا في نهج الإمام علي عليه السلام: السيد عبد الحسين الغريفي، ط: مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة: ص 28-31.