بقلم السيد عبد الحسين الغريفي المشهدي
الحمد لله رب العالمين، ثم الصلاة والسلام على سيّد الخلق أجمعين سيدنا ونبيّنا أبي القاسم المصطفى وعلى آله الطيبين الطاهرين، واللعن الدائم على اعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين.
وبعد:
فأن مما ورد في نهج البلاغة حول الدنيا أنه عليه السلام ذكرها في خطبة يقول فيها:
أَلَا وإِنَّ الدُّنْيَا قَدْ تَصَرَّمَتْ وآذَنَتْ بِانْقِضَاءٍ[1] وتَنَكَّرَ مَعْرُوفُهَا وأَدْبَرَتْ حَذَّاءَ فَهِيَ تَحْفِزُ بِالْفَنَاءِ سُكَّانَهَا وتَحْدُو[2] بِالْمَوْتِ جِيرَانَهَا وقَدْ أَمَرَّ فِيهَا[3] مَا كَانَ حُلْواً وكَدِرَ مِنْهَا مَا كَانَ صَفْواً فَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا إِلَّا سَمَلَةٌ كَسَمَلَةِ الإِدَاوَةِ أَوْ جُرْعَةٌ كَجُرْعَةِ الْمَقْلَةِ لَوْ تَمَزَّزَهَا الصَّدْيَانُ لَمْ يَنْقَعْ فَأَزْمِعُوا عِبَادَ اللَّه الرَّحِيلَ عَنْ هَذِه الدَّارِ الْمَقْدُورِ عَلَى أَهْلِهَا الزَّوَالُ ولَا يَغْلِبَنَّكُمْ فِيهَا الأَمَلُ ولَا يَطُولَنَّ عَلَيْكُمْ فِيهَا الأَمَدُ..[4]
شرح الألفاظ الغريبة:
آذنت: أعلمت؛ تنكّر معروفها: خفي وجهها؛ حَذَّاء: ماضية، سريعة، وقد سبق تفسيرها، وفي رواية ((حذّاء)) – بالجيم – أي مقطوعة الدّرِّ والخبر؛ تحفرهم: تدفعهم وتسوقهم؛ تحدو: - بالواو بعد الدال – تسوقهم بالموت إلى الهلاك؛ أمَرّ الشيء: صار مُرّاً؛ كَدِرَ كدَراً: - كفرح فرحاً – وكدُر – بالضمّ – كظرُف كُدُورةً: تفكر وتغير لونه واختلط بما لا يستساغ هو معه؛ السملة: - محرّكة – بقيّه الماء في الحوض؛ والأداوة: المَطْهَرَة، وهي إناء الماء الذي يتُطَهّرُ به؛ المَقْلَة: - بالفتح- حصاة يضعها المسافرون في إناء، ثمّ يصبّون الماء فيه ليغمرها، فيتناول كل منهم مقدار ما غمره. يفعلون ذلك إذا قل الماء، وأرادوا قسمته بالسوية؛ التمزّز: الامتصاص قليلاً قليلاً؛ والصَدْيَانُ: العطشان؛ لم ينقع: لم يُرْوَ؛ أزمعُوا الرحيل: أي أعزموا عليه، يقال: أزمع الأمر، ولا يقال أزمع عليه؛ المقدور: المكتوب[5].
شرح ابن ميثم البحراني:
اعلم أنّ مدار هذا الفصل على أُمور ثلاثة:
أحدهما: التنفير عن الدنيا، والتحذير منها، والنهي عن تأميلها ، والأمر بالرحيل عنها.
الثاني: التنبيه على عظيم ثواب الله، وما ينبغي أن يرجى منه ويلتفت إليه. ويقصد بالرحيل بالنسبة إلى ما الناس فيه ممّا يتوهّم خيراً في الدنيا، ثمّ على عظيم عقابه وما ينبغي أن يخاف منه.
الثالث: التنبيه على عظمة نعم الله على الخلق، وأنّه لا يمكن جزاءها بأبلغ المساعي وأكثر الاجتهاد.
أمّا الأوّل: فأشار بقوله: ((ألا وإنّ الدنيا قد تصرّمت...)) إلى قوله: ((فيها الأمد)).
وقد علمت أنّ تصرّمها: هو تقضّي أحوالها الحاضرة شيئاً فشيئاً بالنسبة إلى من وجد فيها في كل حين، وأنّ إذنها بالانقضاء: هو إعلامها بلسان حالها لأذهان المعتبرين أنّها لا تبقى لأحد.
فأمّا تنكّر معروفها فمعناه: تغيره وتبدّله، ومثاله أنّ الإنسان إذا أصاب لذّة من لذّات الدنيا- كصحّة أو أمنٍ أو جاهٍ ونحوه- أنس إليه وتوهّم بقاءه له؛ وكان ذلك معروفها الذي أسدته إليه وعرفه وألفه منها، ثمّ إنّه عن قليل يزول ويتبدل بضدّه، فيصير بعد أن كان معروفاً مجهولاً، وتكون الدنيا كصديق تنكر في صداقته ومزجها بعداوته.
وقوله: ((وأدبر حذّاء)): أي ولّت حال ما لا تعلّق لأحد بشيء منها مسرعة، واستعار لفظ الإدبار لانتقال خيراتها عمّن انتقلت عنه بموته أو غير ذلك من وجوه زوالها ملاحظة لشبهها بملك أعرض عن بعض رعيّته برفده وماله وبرّه.
قوله: ((فهي تحفز بالفناء سكّانها وتحدو بالموت جيرانها)).
استعار لها وصفي السائق والحادي استعارة بالكناية.
ووجه المشابهة: كونهم قاطعين لمدّة العمر بالفناء والموت فهي مصاحبته لهم بذلك، كما يصحب السائق والحادي للإبل بالسوق والحداء، وإن أريد بالحفز الطعن فيكون قد تجوز بنسبته إلى البلاء؛ ملاحظة لشبه مصائب الدنيا بالرماح، وكذلك استعار لفظ الفناء والموت لآلة السوق والحداء، ونزلهما منزلة الحقيقة.
ووجه المشابهة كون الموت هو السبب في انتقال الإنسان إلى دار الآخرة، كما أنّ الصوت والسوط – مثلاً للذين هما آلتا الحداء والسوق – هما اللذان بهما يحصل انتقال الإبل من موضع إلى موضع.
وقوله: ((وقد أمرّ منها ما كان حلواً، وكدر منها ما كان صفواً)).
كقوله: ((وتنكّر معروفها)): أي إنّ الأمور التي تقع لذيذة فيها ويجدها الإنسان في بعض أوقاته صافيةً حلوةً خاليةً من كدورات الأمراض ومرارة التنغيص بالعوارض الكريهة، هي في معرض التغيرّ والتبدّل بالمرارة والكدر فما من شخص يخاطبه بما ذكر إلاّ ويصدق عليه أنّه قد عرضت له من تلك اللذات ما استعقب صفوها كدرا. وحلاوتها مرارة إمّا من شباب يتبدّل بكبر، أو غنى بفقر، أو عزّ بذلٍّ، أو صحّة بسقم. وقوله: ((فلم يبق منها إلاّ سملة...)) إلى قوله: ((لم ينقع)).
تقليل وتحقير لما بقي منها لكل شخص شخص من الناس فإنّ بقائها له على حسب بقائه فيها، وبقاء كلّ شخص فيها يسير ووقته قصير.
واستعار لفظ السملة لبقيتها، وشبهاً ببقيّة الماء في الإداوة، وبجرعة المقلة.
ووجه الشبه ما أشار بقوله: ((لو تمززها الصديان لم ينقع)): أي كما أيّ العطشان لبقية الإداوة والجرعة لو تمصصها لم ينقع عطشه، كذلك طالب الدنيا المتعطش إليها الواجد لبقية عمره ولليسير من الاستمتاع فيه بلذات الدنيا لا يشفي ذلك غليله، ولا يسكن عطشه منها؛ فالأولى إذن تعويد النفس بالفطام عن شهواتها.
وقوله: ((فأزمعوا عباد الله الرحيل عن هذه الدار)):
أمر لهم بعد تحقيرها والتنفير عنها بالإزماع وتصميم العزم على الرحيل عنها بالالتفات إلى الله، والإقبال على قطع عقبات الطريق إليه، وهو الرحيل الحقّ عن الدنيا.
وقوله: ((المقدور على أهلها الزوال)):
تذكير بما لا بدّ من مفارقتها لتخفّ الرغبة فيها، ثمّ أعقب ذلك بالنهي عن متابعة الأمل في لذاتها فإنّه ينسي الآخرة، كما سبقت الإشارة إليه، وذكر لفظ المغالبة تذكيراً بالأنفة، واستثارة للحميّة من نفوسهم، ثمّ بالنهي عن توهّم طول مدّة الحياة، واستبعاد الغاية التي هي الموت، فإنّ ذلك يقسي القلب، فيورث الغفلة عن ذكر الله كما قال تعالى: {فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [6]
وأمّا الثاني: فهو التنبيه على عظيم ثواب الله وعقابه.
فاعلم أنّه لمّا حقّر الدنيا وحذر منها وأمر الارتحال عنها؛ أشار بعد ذلك إلى ما ينبغي أن يعظم ويتلفت إليه ويرجى ويخشى وهو ثواب الله وعقابه، فأشار إلى تعظيمها بتحقير الأسباب والوسائل التي يعتمد عليها العباد وهي غايات جهدهم بالنسبة إلى ما ينبغي أن يرجى من ثوابه ويخشى من عقابه، وتلك الأسباب من شدّة الحنين والوله إلى الله والدعاء المستمرّ والتضرع المشبه بتبتل الرهبان، هذا في طريق العبادة. وإنّما خصّ التشبيه بمتبتلي الرهبان؛ لشهرتهم التضرع وكذلك الخروج إلى الله من الأموال والأولاد، وهو أشد الزهد..[7])([8]).
الهوامش:
[1] شرح نهج البلاغة لابن ميثم البحراني 2: 118 – 121/ شرح الخطبة رقم44.
[2] في نهج البلاغة للشيخ محمد عبده: (وتحدر) بدل (وتحدو).
[3] في نهج البلاغة لصبحي صالح: (فيها) بدل (منها).
[4] نهج البلاغة لصبحي صالح: 89/ خطبة رقم 52. ونهج البلاغة للشيخ العطار: 111/ خطبة رقم 52. وشرح نهج البلاغة لابن ميثم 2: 137/ خطبة رقم 51. ونهج البلاغة لمحمد عبده 1: 110 – 111.
[5] شرح الألفاظ الغريبة: 581.
[6] الحديد: 16.
[7] شرح نهج البلاغة لابن ميثم البحراني 2: 138 – 141/ شرح الخطبة رقم 51.
([8]) لمزيد من الاطلاع ينظر: الدنيا في نهج الإمام علي عليه السلام: السيد عبد الحسين الغريفي، ط: مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة: ص 41 – 46.