بقلم السيد نبيل الحسني الكربلائي
الحمد لله على ما أنعم وله الشكر بما ألهم والصلاة والسلام على ابي القاسم محمد وعلى آله الطاهرين واللعنة الدائمة على اعدائهم الى قيام يوم الدين.
أما بعد:
لعل طبيعة الصحراء والجفاف فرض على الإنسان العربي الالتجاء إلى هذه العقيدة، وهي الاستمطار بأذناب البقر.
قال الجوهري في الصحاح في مادة: (السلع) بالتحريك، شجر مُرْ، ومنه السلعة لأنهم كانوا في الجدب يعلقون شيئاً من هذا الشجر ومن العشر بأذناب البقر، ثم يضرمون فيها النار وهم يصعدونها في الجبل فيمطرون، زعموا -بذلك-.
قال الشاعر:
أجاعل أنت بيقورا مسلعة ذريعة لك بين الله والمطر[1]
وفي ذلك يقول الجاحظ:
(كانوا إذا تتابعت عليهم الأزمات، وركد عليهم البلاء، واشتد الجدب، واحتاجوا إلى الاستمطار اجتمعوا وجمعوا ما قدروا عليه من البقر، ثم عقدوا في أذنابها وبين عراقيبها السَلَع والعُشْر ثم صعدوا بها في جبل وعر وأشعلوا فيها النيران، وضجوا بالدعاء والتضرع، فكانوا يرون ذلك من أسباب السقيا)[2].
وكان أهل مكة إذا أجدبوا رشوا على أنفسهم الماء وتطيبوا، وطافوا بالكعبة، ولبسوا ملابسهم بالمقلوب تيمناً بانقلاب الحال... وصعدوا بالبقر جبل (أبي قبيس)... تيمنا بمغيب الشمس وانعقاد الغيوم، وهطول المطر.
وروى ابن أبي الحديد المعتزلي حال أهل مكة وغيرهم في هذا المعتقد، فيقول:
(وإنما يضرمون النيران في أذناب البقر تفاؤلا للبرق بالنار، وكانوا يسوقونها نحو المغرب من دون الجهات، وقال أعرابي:
شفعنا ببيقور إلى هاطل الحيا فعدنــا إلى رب الــحيــا فأجارنـــا
فلم يغن عنا ذاك بل زادنا جدبا وصير جدب الأرض من عنده خصبا
وقال آخر:
قل لبني نهشل أصحاب الحور وسلع من بعد ذاك وعشر
أتطلبون الغيث جهلا بالبقر! ليس بذا يجلل الأرض المطر
ويمكن أن يحمل تفسير الأصمعي على محمل صحيح، فيقال: غالت بمعنى أهلكت، يقال: غاله كذا واغتاله أي أهلكه، وغالتهم غول، يعنى المنية، ومنه الغضب غول الحلم .
وقال آخر:
لما كسونا الأرض أذناب البقر بالسلع المعقود فيها والعشر
وقال آخر:
يا كحل قد أثقلت أذناب البقر بســـــلع يــعـقــــــد فــيــهــــا وعشــر
فهل تجودين ببر ق ومطر
وقال آخر يعيب العرب بفعلهم هذا:
لا در در رجال خاب سعيهم أجاعل أنت بيقورا مسلعة
يستمطرون لدى الإعسار بالعشر ذريعة لك بين الله والمطر)[3]
بقي هناك بعض المعتقدات لدى العرب قبل الإسلام لكنها لم تأخذ حيزاً كبيراً مثلما أخذه الاعتقاد بالجن والشياطين، والذي لعب الكهنة فيه الدور الأساس، لغرض حفظ نفوذهم في المجتمع، واستدرار الأموال من الناس، ولعل الاعتقاد بالتطير والهامة والصدى ينال الرتبة الثانية في أنتشار العقيدة بالجن، وذلك؛ لما تفرضه البيئة الصحراوية، وطبيعة العيش، والترحل، والغزو، والثأر، وما إلى ذلك، فضلاً عن ما يفد على مكة من أفكار وأساطير بحكم وجود بيت الله الحرام وبفعل التجارة التي تنقل من الشام واليمن؛ فضلاً عن دور الشعراء في نقل أخبار العرب في العراق؛ كالمناذرة، والحيرة، وما اختزنته حضارة وادي الرافدين وقربها من الإمبراطورية الفارسية وأخبارها التي كانت تنقل إلى المجتمع المكي الذي أصبح يتلقى كذلك أخبار الروم والإغريق وقصور الشام وغير ذلك، مما شكل تركيبة فكرية معقدة لدى العرب قبل الإسلام، تكشف عن الجهد الجبار الذي بذله سيد الخلق (صلى الله عليه وآله وسلم) في إصلاح الإنسان الذي أخذ يميز بين هذه المعتقدات، فتأثر ببعضها وترك الآخر، حسبما تفرضه عليه بيئته التي يعيش فيها، وقوانينه العشائرية، وتحكم الكهنة.
بل: إنّ حجم الإسلام الذي هو خير الأديان وشأن المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو سيد الأنبياء والمرسلين يفرضان على العقل والواقع والمنطق أن يكونا موازيين لحجم هذه التركيبة المعقدة من الأفكار والمعتقدات، وإلا لا يتناسب في سيرة العقلاء والأنبياء والمصلحين والفلاسفة والمفكرين أن يظهر عظيم في مجتمع ساذج لا يفقه شيئاً، بل العظمة تقتضي أن يكون المصلح في مجتمع تنوعت فيه الأفكار وتعددت فيه الرؤى واختلفت فيه المعتقدات.
كما هو حال نبي الله أبراهيم (عليه السلام) الذي واجه الوثنية بمختلف ضروبها وأصولها من عبادة الشمس والقمر والزهرة وتعاقب ظاهرة الليل والنهار والأصنام والأوثان والطاغوتية في أدعاء النمرود الربوبية وغيرها مما شهدة بلاد الرافدين وتراكمت فيها المعتقدات.
ولذا نجد أمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام) يبين أثر الأنبياء (عليهم السلام) لاسيما سيدهم وخاتمهم (صلى الله عليه وآله) في إصلاح الفكر وإرشاد العقل الى الحق وأهله ونبذ الوثنية وتعدد فروعها بين الناس، قال (عليه السلام):
«فَبَعَثَ فِيهِمْ رُسُلَه، ووَاتَرَ إِلَيْهِمْ أَنْبِيَاءَه لِيَسْتَأْدُوهُمْ مِيثَاقَ فِطْرَتِه، ويُذَكِّرُوهُمْ مَنْسِيَّ نِعْمَتِه، ويَحْتَجُّوا عَلَيْهِمْ بِالتَّبْلِيغِ، ويُثِيرُوا لَهُمْ دَفَائِنَ الْعُقُولِ، ويُرُوهُمْ آيَاتِ الْمَقْدِرَةِ، مِنْ سَقْفٍ فَوْقَهُمْ مَرْفُوعٍ، ومِهَادٍ تَحْتَهُمْ مَوْضُوعٍ، ومَعَايِشَ تُحْيِيهِمْ، وآجَالٍ تُفْنِيهِمْ، وأَوْصَابٍ تُهْرِمُهُمْ، وأَحْدَاثٍ تَتَابَعُ عَلَيْهِمْ.
ولَمْ يُخْلِ الله سُبْحَانَه خَلْقَه مِنْ نَبِيٍّ مُرْسَلٍ، أَوْ كِتَابٍ مُنْزَلٍ أَوْ حُجَّةٍ لَازِمَةٍ أَوْ مَحَجَّةٍ قَائِمَةٍ، رُسُلٌ لَا تُقَصِّرُ بِهِمْ قِلَّةُ عَدَدِهِمْ، ولَا كَثْرَةُ الْمُكَذِّبِينَ لَهُمْ، مِنْ سَابِقٍ سُمِّيَ لَه مَنْ بَعْدَه أَوْ غَابِرٍ عَرَّفَه مَنْ قَبْلَه عَلَى ذَلِكَ نَسَلَتِ الْقُرُونُ ومَضَتِ الدُّهُورُ، وسَلَفَتِ الآبَاءُ وخَلَفَتِ الأَبْنَاءُ إِلَى أَنْ بَعَثَ الله سُبْحَانَه مُحَمَّداً، رَسُولَ الله (صلى الله عليه وآله) لإِنْجَازِ عِدَتِه وإِتْمَامِ نُبُوَّتِه، مَأْخُوذاً عَلَى النَّبِيِّينَ مِيثَاقُه، مَشْهُورَةً سِمَاتُه كَرِيماً مِيلَادُه، وأَهْلُ الأَرْضِ يَوْمَئِذٍ مِلَلٌ مُتَفَرِّقَةٌ، وأَهْوَاءٌ مُنْتَشِرَةٌ وطَرَائِقُ مُتَشَتِّتَةٌ، بَيْنَ مُشَبِّه لِلَّه بِخَلْقِه أَوْ مُلْحِدٍ فِي اسْمِه، أَوْ مُشِيرٍ إِلَى غَيْرِه، فَهَدَاهُمْ بِه مِنَ الضَّلَالَةِ وأَنْقَذَهُمْ بِمَكَانِه مِنَ الْجَهَالَةِ...»[4].
ويكشف قوله (عليه السلام) عن خصوصية المجتمع العربي ونفاذ الوثنية فيه، وتعدد ضروبها، فكانت من أصعب ما واجهه الأنبياء من قبله، مما استوجب عليه (صلى الله عليه وآله) بذل كل ما بوسعه في تحريرهم من عبودية الجهل ورق الوثنية:
«فَهَدَاهُمْ بِه مِنَ الضَّلَالَةِ وأَنْقَذَهُمْ بِمَكَانِه مِنَ الْجَهَالَةِ»)[5]
الهوامش:
[1] الصحاح للجوهري: ج3، ص1231.
[2] كتاب الحيوان للجاحظ: ج4، ص466.
[3] شرح نهج البلاغة، المعتزلي: ج19 ص 382.
[4] نهج البلاغة، الخطبة الأولى، ص44 بتحقيق صبحي الصالح.
[5] ينظر: أثر الميثولوجيا العالمية في تكوين عقائد العرب قبل الإسلام، السيد نبيل الحسني: ص 118-123 اصدار العتبة الحسينية المقدسة – مؤسسة علوم نهج البلاغة/ ط1 دار الوارث- 2022م.