بقلم: د. جليل منصور العريَّض – الجامعة الأولى/ تونس
الحمد لله على ما أنعم وله الشكر بما ألهم والثناء بما قدم والصلاة والسلام على خير خلقه أجمعين محمد وآله الطاهرين.
وبعد:
لقد خسرت قريش كثيراً في مواجهتها المباشرة للنبي صلى الله عليه وآله، ففقدت كثيراً من أبطالها، ومن ثم مكانتها كمركز استقطاب للقبائل العربية، ورضخت في نهاية الأمر مرغمة لإدارة الله فأكسبتها تلك الحوادث الأليمة تجارب قيمة، فلم ترتد عن الإسلام حين ارتدت الكثير من قبائل العرب[1]، ثم انها دعمت أبا بكر وساندت تثبيت حكمه حين وجدت مصلحتها تقتضي ذلك[2] وتعاونت مع عمر بن الخطاب بحذر شديد وفي حدود مصلحتها فلما احست بخطره على طموحاتها، وتأكد لها أنه سيجعلها اسوة بغيرها[3] دبرت اغتياله ـ فيما نعتقد ـ بيد غريبة، وهي بمنأى عن الاتهام[4]، ثم تعاونت مع عثمان واظهرت له الود والاخلاص حين سمح لها بما لم يسمح به عمر من الإنسياح في الامصار الإسلامية واقتناء الضياع وامتلاك العبيد، وجمع الثروات، وبناء الدور الفخمة[5]، ولكن تفضيله فئة قرشية على أخرى جعله موضع سخط الفئة المفضولة[6]، وتربص الفئة المفضلة [7]التي لا تهمها سوى امتيازاتها، فاتحدت الفئتان في الاهداف، فكانت النتيجة اغتيال الحاكم الثالث في منأى من اتهام قريش أيضاً. ولكنها أخطأت التقدير حين واجهت علياً عليه السلام في وقعة الجمل، مما جعلها تعود لمراجعة حساباتها ثانية، فتتخفى وراء سياج متين من سياسة الخداع، بالالتواء على النص القرآني وتأويله بما يتناسب ومصلحتها، فكان لها ما أرادت في صفين، حين استطاعت ان تقف حائلاً دون عودة الصف الإسلامي إلى وحدته في كنف السياسة الدينية المتمثلة في الخلافة)[8].
الهوامش:
[1] راجع ابن الاثير: الكامل في التاريخ 2/220.
[2] بشأن موقف قريش من بيعة أبي بكر ومعاضدتها حكمه، راجع ابن قتيبة: الإمامة والسياسة 1/11 وما بعدها.
[3] جاء عند الطبري في تاريخه 4/397 ان عمر «لم يمت ملته قريش»، وروى اليعقوبي في تاريخه 2/154 قول عمر في اخر سنة من حكمه «ان عشت هذه السنة ساويت بين الناس، فلم أفضل أحمر على أسود، ولا عربياً على عجمي وصنعت كما صنع رسول الله صلى الله عليه وآله وأبو بكر».
[4] إن اغتيال عمر بن الخطاب على يد أبي لؤلؤة، ذلك العبد الذي قيل عنه أنه ربما كان مجوسياً أو مسيحيا، وتحت سمع المسلمين وبصرهم في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله لَمِنَ الأمور التي تبعث على الشك، وتطرح كثيراً من التساؤلات، إذ كيف تسنى لذلك العبد ان يقدم على الدخول إلى المسجد دون ان يلفت إليه الانظار، في وقت يقتضي تواجد جل المسلمين فيه، ثم ان الحوار الذي دار بين عمر والعبد لا يشكل دافعاً لقيام العبد بذلك العمل الجريء، اضافة إلى ذلك فإننا نستبعد ان يكون ا لاغتيال بدافع الشعوبية، لأن القاتل لم يكن في مستوى النضج الفكري بحيث يشكل عنده الدافع القومي هاجساً ينزع به إلى القتل، اضف إلى ذلك ان المصادر التاريخية لم تحدثنا ان القاتل مصاب بلوثة أدت به إلى الإقدام على ذلك، مما جعلنا نعتقد ان قريشاً هي التي دبرت مقتل عمر، فأغرت به ذلك العبد وهيأت له الظروف المناسبة بطريقة محكمة وذكية، لأنها احست بتهديد عمر لمصالحها المادية بالعودة بنظام توزيع الأموال كما كان عليه في عهد الرسول صلى الله عليه وآله وأبي بكر ـ بشأن موقف عمر من قريش في آخر حياته ـ راجع تاريخ الطبري السابق، أما بشأن اغتيال عمر فراجع أحداث السنة الثالثة والعشرين هجرية في جميع المصادر التاريخية.
[5] بشأن معاملة عثمان اللينة لقريش راجع تاريخ الطبري 4/397.
[6] راجع ص 230 وما بعدها من هذا البحث.
[7] بشأن موقف معاوية من مقتل عثمان، راجع تاريخ الطبري 4/ 368، وراجع أيضاً رسائل 37.
[8] لمزيد من الاطلاع ينظر: فكر الإمام علي عليه السلام كما يبدو في نهج البلاغة: للدكتور خليل منصور العريّض، ط: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة: ص 288-290