الدنيا في خطب الإمام علي عليه السلام قوله عليه السلام ((في خطبة يصف فيها قدرة الله تعالى))

مقالات وبحوث

الدنيا في خطب الإمام علي عليه السلام قوله عليه السلام ((في خطبة يصف فيها قدرة الله تعالى))

2K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 25-02-2023

بقلم السيد عبد الحسين الغريفي المشهدي

الحمد لله رب العالمين، ثم الصلاة والسلام على سيّد الخلق أجمعين سيدنا ونبيّنا أبي القاسم المصطفى وعلى آله الطيبين الطاهرين، واللعن الدائم على اعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين.

وبعد:

كُلُّ شَيْءٍ خَاشِعٌ [1]  لَه، وكُلُّ شَيْءٍ قَائِمٌ بِه، غِنَى كُلِّ فَقِيرٍ، وعِزُّ كُلِّ ذَلِيلٍ،  وقُوَّةُ كُلِّ ضَعِيفٍ، ومَفْزَعُ كُلِّ مَلْهُوفٍ، مَنْ تَكَلَّمَ سَمِعَ نُطْقَه، ومَنْ سَكَتَ عَلِمَ سِرَّه، ومَنْ عَاشَ فَعَلَيْه رِزْقُه، ومَنْ مَاتَ فَإِلَيْه مُنْقَلَبُه – إلى أن يقول عليه أفضل الصلاة والسلام -  سُبْحَانَكَ مَا أَعْظَمَ شَأْنَكَ! سُبْحَانَكَ مَا أَعْظَمَ مَا نَرَى مِنْ خَلْقِكَ! (ومَا أَصْغَرَ كُلَّ عَظِيمَةٍ)[2] فِي جَنْبِ قُدْرَتِكَ! ومَا أَهْوَلَ مَا نَرَى مِنْ مَلَكُوتِكَ! ومَا أَحْقَرَ ذَلِكَ فِيمَا غَابَ عَنَّا مِنْ سُلْطَانِكَ! ومَا أَسْبَغَ نِعَمَكَ فِي الدُّنْيَا، ومَا أَصْغَرَهَا فِي نِعَمِ [3] الآخِرَةِ[4]!

شرح نهج ابن ميثم البحراني:

هذا الفصل من أشرف الفصول المشتملة على توحيد الله وتنزيهه وإجلاله وتعظيمه، وفيه اعتبارات ثبوتية وسلبية: أما الثبوتية فعشرة:

الأول: ((كُلُّ شَيْءٍ خَاشِعٌ  لَه)): والخشوع مراده هنا بحسب الاشتراك اللفظي إذ الخشوع من الناس يعود إلى تطامنهم وخضوعهم لله، ومن الملائكة دؤوبهم في عبادتهم ملاحظة لعظمته، ومن سائر الممكنات انفعالها عن قدرته وخضوعها في رق الإمكان والحجة إليه والمشترك وإن كان لا يستعمل في جميع مفهوماته حقيقة، فقد بينا انه يجوز استعماله مجازاً فيها بحسب القرينة، وهي هنا إضافته إلى كل شيء أو لأنه في قوة المتعدد كقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ}[5] فكانه قال: الملك خاشع له والبشر خاشع له، وهذا الاعتبار يستلزم وصفه تعالى باعتبارين.

أحدهما: كونه عظيماً؛ والثاني: كونه غنياً.

أما العظيم فينقسم إلى ما يكبر حاله في النفس، ولكن يتصور أن يحيط بكماله العقول ويقف على كنه حقيقته وإلى ما يمكن أن يحيط به بعض العقول وإن فات أكثرها وهذان القسمان إنما يطلق عليهما لفظ العظمة بالإضافة وقياس كل إلى ما دونه فيما هو عظيم فيه.

وإلى ما لا يتصور أن يحيط به العقل أصلاً، وذلك هو العظيم المطلق الذي جاوز حدود العقول أن يقف على صفات كماله ونعوت جلاله، وليس هو إلا الله تعالى.

وأما الغني فسنذكره.

الثاني: ((قِيَامُ كُلُّ شيءٍ بِهِ)): واعلم أنّ جميع الممكنات إما جواهر، أو أعراض، وليس شيء منها يقوم بذاته في الوجود.

أمّا الأعراض: فظاهر لظهور حاجتها إلى المحل الجوهري.

وأما الجواهر: فلأن قوامها في الوجود إنما يكون بقيام عللها وتنتهي إلى الفاعل الأول جلت عظمته فهو إذن الفاعل المطلق الذي به قوام كل موجود في الوجود.

وإذ ثبت أنه تعالى غني عن كل شيء في كل شيء، وثبت أن به قوام كل شيء ثبت أنه القيوم المطلق؛ إذ مفهوم القيوم: هو القائم بذاته المقيم لغيره، فكان هذا الاعتبار مستلزماً لهذا الوصف.

الثالث: كونه تعالى((غِنَى كُلِّ فَقِيرٍ)): ويجب أن يحمل الفقر على ما هو اعم من الفقر المتعارف وهو مطلق الحاجة ليعم التمجيد كما أن الغنى هو سلب مطلق الحاجة وإذ ثبت أن كل ممكن فهو مفتقر في طرفيه، منته في سلسلة الحاجة إليه، وأنه تعالى المقيم له في الوجود؛ ثبت أنه تعالى رافع حاجة كل موجود ، بل كل ممكن، وهو المراد بكونه غني له، وأطلق عليه تعالى لفظ الغني وإن كان الغنى به مجازاً اطلاقاً لاسم السبب على المسبب.

الرابع: كونه ((عِزُّ كُلِّ ذَلِيلٍ)): وقد سبق أن معنى العزيز: هو الخطير الذي يقل وجود مثله، ويشتد الحاجة، ويصعب الوصول إليه فما اجتمعت فيه هذه المفهومات الثلاثة سمي عزيزاً وسبق أيضاً أن هذه المفهومات مقولة بالزيادة والنقصان على ما تصدق عليه، وأنه ليس الكمال في واحد منها إلا الله سبحانه.

ويقابله الذليل وثبت أنه تعالى عز كل موجود؛ لأن كل موجود سواه إنما يتحقق فيه هذه المفهومات الثلاثة منه سبحانه الناظم لسلسلة الوجود، والواضع لكل من الموجودات في رتبته من النظام الكلي فمنه عز كل موجود وكل موجود ذليل في رق الإمكان والحاجة إليه في إفاضة المفهومات الثلاثة عليه؛ فهو إذن عز كل ذليل وإطلاق لفظ العز عليه كإطلاق لفظ الغنى.

الخامس: ((قُوَّةُ كُلِّ ضَعِيفٍ)): القوة تطلق على كمال القدرة وعلى شدة الممانعة والدفع ويقابلها الضعف، وهما مقولان بالزيادة والنقصان على من يطلقان عليه، وإذ ثبت أنه تعالى مستند جميع الموجودات، والمفيض على كل قابل ما يستعد له ويستحقه، فهو المعطي لكل ضعيف عادم القوة من نفسه كماله وقوته، فمنه قوة كل ضعيف بالمعنيين المذكورين لها.

وروي أن الحسن قال: واعجباً لنبي الله لوط عليه السلام إذ قال لقومه: {الَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آَوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ}[6]، أتراه أراد ركناً أشدّ من الله تعالى[7].

وإطلاق لفظ القوة عليه كإطلاق لفظ الغنى أيضاً.

السادس: كونه ((مَفْزَعُ كُلِّ مَلْهُوفٍ)): أي إليه ملجأ كل مضطر في ضرورته حال حزن او خوف او ظلم، كم قال تعالى: {ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ}[8]، { وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ}[9] فكلّ مفزع وملجأ غيره فلمضطر لا لكل مضطر، ومجاز لا حقيقة، وإضافي لا حقيقي، وهذا الاعتبار يستلزم كمال القدرة لله لشهادة فطرة ذي الضرورة بنسبة جميع أحوال وجوده إلى وجوده، ويستلزم كمال العلم، لشهادة فطرته باطلاعه على ضرورته، وكذلك كونه سميعاً وبصيراً، وخالقاً، ومجيباً للدعوات، وقيوماً ونحوها من الاعتبارات.

السابع: كونه ((مَنْ تَكَلَّمَ سَمِعَ نُطْقَه)).

الثامن: ((ومَنْ سَكَتَ عَلِمَ سِرَّه)): وهما إشارتان إلى وصفي السميع، ولما كان السميع يعود إلى العالم بالمسموعات استلزم الوصفان إحاطته بما أظهر العبد وأبداه، وما أسره وأخفاه في حالتي نطقه وسكوته، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك.

إلى أن يقول ابن ميثم البحراني في شرحه للخطبة:

تنزيه وتقديس الله تعالى عن أحكام الأوهام على صفاته بشبهية مدركاتها، وتعجب في معرض التمجيد من عظم ما يشاهد من مخلوقاته، كأطباق الأفلاك والعناصر وما يتركب عنها.

ثم من حقارة هذه العظمة بالقياس إلى ما تعتبره العقول من مقدوراته وما يمكن في كمال قدرته من الممكنات الغير المتناهية، وظاهر أن نسبة الموجود إلى الممكن في العظم والكثرة يستلزم حقارته وصغره، ثم من هول ما وصلت غليه العقول من عظمة ملكوته، ثم من حقارته بالقياس إلى ما غاب عنها وحجبت عن إدراكه بأستار القدرة، وحجب العزة من الملأ الأعلى وسكان حظائر القدس، وحال العالم العلوي.

ثم من سبوغ نعمة الله تعالى على عباده في الدنيا وحقارة تلك النعم بالقياس إلى النعمة التي أعدها لهم في الآخرة، وظاهر أن نعم الدنيا إذا اعتبرت إلى نعم الآخرة في الدوام والكثرة والشرف بالقياس إليها في غاية الحقارة. والله التوفيق[10])([11]).

الهوامش:
[1] في شرح نهج ابن ميثم البحراني والشيخ محمد عبده: (خاضع) بدل (خاشع).
[2] ما بين القوسين في نهج صبحي صالح: وما أصغر كل عظيمة؛ وفي نهج المحقق الشيخ العطار: وما أصغر عظيمه.
[3] في نهج ابن ميثم البحراني ونهج الشيخ محمد عبده: (نعيم) بدل (نعم).
[4] نهج البلاغة لصبحي صالح: 158 – 159/ خطبة رقم 109، ونهج المحقق الشيخ العطار: 209 – 210/ خطبة رقم 108، وشرح نهج ابن ميثم البحراني 3: 49-50/ خطبة رقم 106، وفي نهج الشيخ محمد عبده 1: 227-228.
[5] الأحزاب: 56,
[6] هود: 80.
[7] شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 7: 195.
[8] النحل: 53.
[9] الإسراء: 67.
[10] شرح نهج البلاغة لابن ميثم البحراني 3: 50- 57/ شرح خطبة رقم 106.
([11]) لمزيد من الاطلاع ينظر: الدنيا في نهج الإمام علي عليه السلام: السيد عبد الحسين الغريفي، ط: مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة: ص 92-96.

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.2520 Seconds