الدنيا في خطب الإمام علي عليه السلام قوله عليه السلام في خطبة يذم فيها الدنيا

مقالات وبحوث

الدنيا في خطب الإمام علي عليه السلام قوله عليه السلام في خطبة يذم فيها الدنيا

948 مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 26-03-2023

بقلم السيد عبد الحسين الغريفي المشهدي

الحمد لله رب العالمين، ثم الصلاة والسلام على سيّد الخلق أجمعين سيدنا ونبيّنا أبي القاسم المصطفى وعلى آله الطيبين الطاهرين، واللعن الدائم على اعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين.

وبعد:
أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أُحَذِّرُكُمُ الدُّنْيَا، فَإِنَّهَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، حُفَّتْ بِالشَّهَوَاتِ وتَحَبَّبَتْ بِالْعَاجِلَةِ، ورَاقَتْ بِالْقَلِيلِ وتَحَلَّتْ بِالآمَالِ، وتَزَيَّنَتْ بِالْغُرُورِ لَا تَدُومُ حَبْرَتُهَا، ولَا تُؤْمَنُ فَجْعَتُهَا، غَرَّارَةٌ ضَرَّارَةٌ حَائِلَةٌ زَائِلَةٌ، نَافِدَةٌ بَائِدَةٌ أَكَّالَةٌ غَوَّالَةٌ، لَا تَعْدُو- إِذَا تَنَاهَتْ إِلَى أُمْنِيَّةِ أَهْلِ الرَّغْبَةِ فِيهَا والرِّضَاءِ بِهَا- أَنْ تَكُونَ كَمَا قَالَ اللَّه (سُبْحَانَه تَعَالَى)[1] : {كَماءٍ أَنْزَلْناه مِنَ السَّماءِ، فَاخْتَلَطَ بِه نَباتُ الأَرْضِ، فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوه الرِّياحُ، وكانَ الله عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً }[2] .
 لَمْ يَكُنِ امْرُؤٌ مِنْهَا فِي حَبْرَةٍ، إِلَّا (أَعْقَبَتْه بَعْدَهَا عَبْرَةً)[3] ، ولَمْ يَلْقَ فِي سَرَّائِهَا بَطْناً، إِلَّا مَنَحَتْه مِنْ ضَرَّائِهَا ظَهْراً؛ ولَمْ تَطُلَّه فِيهَا دِيمَةُ رَخَاءٍ، إِلَّا هَتَنَتْ عَلَيْه مُزْنَةُ بَلَاءٍ! وحَرِيٌّ إِذَا أَصْبَحَتْ لَه مُنْتَصِرَةً، أَنْ تُمْسِيَ لَه مُتَنَكِّرَةً، وإِنْ جَانِبٌ مِنْهَا اعْذَوْذَبَ واحْلَوْلَى، أَمَرَّ مِنْهَا جَانِبٌ فَأَوْبَى!
 لَا يَنَالُ امْرُؤٌ مِنْ غَضَارَتِهَا رَغَباً، إِلَّا أَرْهَقَتْه مِنْ نَوَائِبِهَا تَعَباً، ولَا يُمْسِي مِنْهَا فِي جَنَاحِ أَمْنٍ، إِلَّا أَصْبَحَ عَلَى قَوَادِمِ خَوْفٍ! غَرَّارَةٌ غُرُورٌ مَا فِيهَا فَانِيَةٌ، فَانٍ مَنْ عَلَيْهَا، لَا خَيْرَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَزْوَادِهَا إِلَّا التَّقْوَى.
 مَنْ أَقَلَّ مِنْهَا اسْتَكْثَرَ مِمَّا يُؤْمِنُه! ومَنِ اسْتَكْثَرَ مِنْهَا اسْتَكْثَرَ مِمَّا يُوبِقُه، وزَالَ عَمَّا قَلِيلٍ عَنْه.
 كَمْ مِنْ وَاثِقٍ بِهَا قَدْ فَجَعَتْه، وذِي طُمَأْنِينَةٍ إِلَيْهَا قَدْ صَرَعَتْه، وذِي أُبَّهَةٍ قَدْ جَعَلَتْه حَقِيراً، وذِي نَخْوَةٍ قَدْ رَدَّتْه ذَلِيلًا! سُلْطَانُهَا دُوَّلٌ وعَيْشُهَا رَنِقٌ، وعَذْبُهَا أُجَاجٌ وحُلْوُهَا صَبِرٌ، وغِذَاؤُهَا سِمَامٌ وأَسْبَابُهَا رِمَامٌ! حَيُّهَا بِعَرَضِ[4] مَوْتٍ، وصَحِيحُهَا بِعَرَضِ[5] سُقْمٍ! مُلْكُهَا مَسْلُوبٌ، وعَزِيزُهَا مَغْلُوبٌ، ومَوْفُورُهَا مَنْكُوبٌ، وجَارُهَا مَحْرُوبٌ!
 أَلَسْتُمْ فِي مَسَاكِنِ، مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ أَطْوَلَ أَعْمَاراً، وأَبْقَى آثَاراً وأَبْعَدَ آمَالًا، وأَعَدَّ عَدِيداً وأَكْثَفَ جُنُوداً، تَعَبَّدُوا لِلدُّنْيَا أَيَّ تَعَبُّدٍ، وآثَرُوهَا أَيَّ إِيْثَارٍ، ثُمَّ ظَعَنُوا عَنْهَا بِغَيْرِ زَادٍ مُبَلِّغٍ، ولَا ظَهْرٍ قَاطِعٍ. فَهَلْ بَلَغَكُمْ أَنَّ الدُّنْيَا سَخَتْ لَهُمْ نَفْساً بِفِدْيَةٍ؟ أَوْ أَعَانَتْهُمْ بِمَعُونَةٍ، أَوْ أَحْسَنَتْ لَهُمْ صُحْبَةً؟ بَلْ أَرْهَقَتْهُمْ بِالْفَوَادِحِ، وأَوْهَقَتْهُمْ [6]بِالْقَوَارِعِ، وضَعْضَعَتْهُمْ بِالنَّوَائِبِ، وعَفَّرَتْهُمْ لِلْمَنَاخِرِ ووَطِئَتْهُمْ بِالْمَنَاسِمِ، وأَعَانَتْ عَلَيْهِمْ رَيْبَ الْمَنُونِ.
 فَقَدْ رَأَيْتُمْ تَنَكُّرَهَا لِمَنْ دَانَ لَهَا، وآثَرَهَا وأَخْلَدَ إِلَيْهَا، حَتّى[7] ظَعَنُوا عَنْهَا لِفِرَاقِ الأَبَدِ.
 و[8]هَلْ زَوَّدَتْهُمْ إِلَّا السَّغَبَ، أَوْ أَحَلَّتْهُمْ إِلَّا الضَّنْكَ، أَوْ نَوَّرَتْ لَهُمْ إِلَّا الظُّلْمَةَ، أَوْ أَعْقَبَتْهُمْ إِلَّا النَّدَامَةَ!
 أَفَهَذِه تُؤْثِرُونَ أَمْ إِلَيْهَا تَطْمَئِنُّونَ، أَمْ عَلَيْهَا تَحْرِصُونَ؟ فَبِئْسَتِ الدَّارُ لِمَنْ لَمْ يَتَّهِمْهَا، ولَمْ يَكُنْ فِيهَا عَلَى وَجَلٍ مِنْهَا!
 فَاعْلَمُوا -وأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ- بِأَنَّكُمْ تَارِكُوهَا وظَاعِنُونَ عَنْهَا، واتَّعِظُوا فِيهَا بِالَّذِينَ قَالُوا، {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً }[9]، حُمِلُوا إِلَى قُبُورِهِمْ، فَلَا يُدْعَوْنَ رُكْبَاناً، وأُنْزِلُوا الأَجْدَاثَ[10] فَلَا يُدْعَوْنَ ضِيفَاناً، وجُعِلَ لَهُمْ مِنَ الصَّفِيحِ أَجْنَانٌ، ومِنَ التُّرَابِ أَكْفَانٌ ومِنَ الرُّفَاتِ جِيرَانٌ، فَهُمْ جِيرَةٌ لَا يُجِيبُونَ دَاعِياً، ولَا يَمْنَعُونَ ضَيْماً ولَا يُبَالُونَ مَنْدَبَةً، إِنْ جِيدُوا لَمْ يَفْرَحُوا، وإِنْ قُحِطُوا لَمْ يَقْنَطُوا، جَمِيعٌ وهُمْ آحَادٌ وجِيرَةٌ وهُمْ أَبْعَادٌ، مُتَدَانُونَ لَا يَتَزَاوَرُونَ، وقَرِيبُونَ لَا يَتَقَارَبُونَ، حُلَمَاءُ قَدْ ذَهَبَتْ أَضْغَانُهُمْ، وجُهَلَاءُ قَدْ مَاتَتْ أَحْقَادُهُمْ، لَا يُخْشَى فَجْعُهُمْ، ولَا يُرْجَى دَفْعُهُمْ، اسْتَبْدَلُوا بِظَهْرِ الأَرْضِ بَطْناً، وبِالسَّعَةِ ضِيقاً وبِالأَهْلِ غُرْبَةً، وبِالنُّورِ ظُلْمَةً فَجَاءُوهَا كَمَا فَارَقُوهَا، حُفَاةً عُرَاةً قَدْ ظَعَنُوا عَنْهَا بِأَعْمَالِهِمْ، إِلَى الْحَيَاةِ الدَّائِمَةِ والدَّارِ الْبَاقِيَةِ كَمَا قَالَ سُبْحَانَه وتَعَالَى، { كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ، نُعِيدُه وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ}[11])[12].

شرح الألفاظ الغريبة:
الحبرة:، بالفتح – السرور والنعمة؛ حائلة متغيرة؛ نافدة: فانية؛ بائدة: هالكة؛ غوالة: مهلكة؛ الهشيم: النبت اليابس المكسر؛ العبرة:، بالفتح – الدمعة قبل أن تفيض؛ كنى ((بالبطن)) عن الإقبال؛ كنى ((بالظهر)): عن الإدبار؛ الطل: المطر الخفيف، وطلته السماء: أمطرته مطراً قليلاً؛ الديمة: مطر يدوم في سكون، لا رعد ولا برق معه؛ الرخاء: السعة؛ هتنت المزن: انصبت؛ أوبى: صار كثير الوباء، والوباء هو المعروف بالريح الأصفر؛ الغضارة: النعمة والسعة؛ الرغب:، بالتحريك – الرغبة والمرغوب؛ أرهقته التعب: الحقته به؛ القوادم: جمع قادمة الواحدة من أربع أو عشر ريشات في مقدم جناح الطائر وهي القوادم، والعشر التي تحتها هي الخوافي؛ يوبقه: يهلكه؛ أبهة:، بضم فتشديد – عظمة؛ النخوة:، بفتح النون – الافتخار؛ دول:، بضم الدال وفتح الواو المشددة – المتحول؛ رنق:، بفتح فكسر – كدر؛ أجاج: شديد الملوحة؛ الصبر:، ككتف – عصارة شجر مر؛ سمام جمع سم مثلث السين وهو من المواد ما إذا خالط المزاج أفسده فقتل صاحبه؛ رمام: جمع رمة – بالضم – وهي القطعة البالية من الحبل؛ موفورها: ما كثر منها، مصاب بالنكبة، وهي المصيبة أي في معرض لذلك؛ محروب: من حربه حرباً – بالتحريك – إذا سلب ماله؛ ظهر قاطع: راحلة تركب لقطع الطريق؛ الفدية: الفداء؛ أرهقتهم: غشيتهم، القوادح: جمع قادح، وهو أكال – كزكام – يقع في الشجر والأسنان؛ أوهقتهم: جعلتهم في الوهق – بفتح الهاء – وهو حبل كالطول؛ والقوارع: المحن والدواهي؛ ضعضعتهم: ذللتهم؛ عفرتهم: كبتهم على مناخرهم في العفر، وهو التراب؛ المناسم: جمع منسم، وهو مقدم خف البعير، أو الخف نفسه؛ دان لها: خضع؛ أخلد لها: ركن إليها؛ السغب:، بالتحريك – الجوع؛ الضنك: الضيق لا يدعون ركباناً: لا يقال لهم ركبان: جمع راكب، لأن الراكب من يكون مختاراً، وله التصرف في مركوبه؛ الأجداث: القبور؛ الصفيح: وجه كل شيء عريض، والمراد وجه الأرض؛ الأجنان: جمع جنن – بالتحريك – وهو القبر؛ الرفات: العظام المندقة المحطومة؛ جيدوا:، بالبناء للمجهول – مطروا؛ لا يخشى فجعهم: لا تخاف منهم أن يفجعوك بضرر[13])([14]).

الهوامش:
[1] في نهج البلاغة لصبحي صالح ونهج محمد عبده: تعالى سبحانه.
[2] الكهف: 45.
[3] ما بين القوسين في نهج ابن ميثم: أعقبتها عبره.
[4] في شرح نهج ابن ميثم ومحمد عبده: بِعُرْض.
[5] في شرح نهج ابن ميثم ومحمد عبده: بِعُرْض.
[6] في نهج البلاغة لصبحي صالح: وأَوْهَقَتهمُ.
[7] في نهج البلاغة لصبحي صالح ونهج البلاغة للعطار: حين.
[8] (الواو) ليست في نهج الشيخ العطار.
[9] فصلت: 15.
[10] كلمة (الأجداث): ليست في نهج البلاغة للشيخ العطار.
[11] الأنبياء: 104.
[12] نهج البلاغة لصبحي صالح: 164-167/ خطبة رقم 111، وفي نهج البلاغة للمحقق الشيخ العطار: 217- 221/ خطبة رقم 110، شرح نهج البلاغة لابن ميثم البحراني 3: 83-85/ خطبة رقم 108، ونهج الشيخ محمد عبده 1: 234-238.
[13] شرح الألفاظ الغريبة: 616-617.
([14]) لمزيد من الاطلاع ينظر: الدنيا في نهج الإمام علي عليه السلام: السيد عبد الحسين الغريفي، ط: مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة: ص 105-110.

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.3624 Seconds