بقلم: د. الشيخ محسن الخزاعي- جامعة الكوفة.
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين أبي القاسم محمد وآله الطيبين الطاهرين أساس الدين وعماد اليقين.
أما بعد:
من أهم المرتكزات التي بني عليها الإسلام، وندب إليها القرآن الكريم التحلي بالأخلاق الفاضلة وترك السلوكيات المشينة، قال عز من قائل: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً وَلا تَمْشِ فِي الأرض مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأرض وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئه عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً}([1]).
ولقد بين الله تعالى هذا المعنى أحسن بيانٍ حين جمع بين الإيمان به ومكارمِ الأخلاق في آية واحدة عرض فيها لمدلول البر العام فقال سبحانه: {ليْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}([2]).
كما أنَّ نبي الإسلام صلى الله عليه وآله وسلم جاء لتكميل هذا المخطط بإيصال الإنسان إلى أعلى المراتب فقال: ((إنما بعثت لأُتمِّم مكارم الأخلاق))([3])، وحثَّ المسلمين على أفضل سُبل المعاشرة والسلوك مع بني نوعهم للوصول إلى الحياة الفضلى، وهو في هذا الحديث يبين الخصال التي تجعل من الفرد إنساناً كاملاً وتؤهله للأمانة الاعتماد والثقة.
مما يكشف أنَّ الشريعة الإسلامية عندما نزلت بالجزيرة العربية لم تلغ المنظومة الخلقية وقتذاك كلها، وإنّما باركت بعض الممارسات، وأعطتها أبعاد إيمانية مختلفة، وأضفت على بعضها صفة الوجوب، وعلى البعض الآخر الاستحباب، مثل حفظ الجوار، وأداء الأمانة، والوفاء بالعهد، والنجدة، وإقراء الضيف، وما إلى ذلك من الأخلاق المعمول بها أيام الجاهلية.
فقضية الأخلاق من القضايا الجوهرية في حياة البشر، وحسنُ الخلق والسلوكُ الطيب من لوازم الإيمان بالله تعالى كما هو معلوم، فكلما قوي إيمان العبد كان التزامُه بالخلق الحسن أقوى واحترافه للسلوك أمتن، قال صلى الله عليه وآله وسلم: ((إنَّ أَكْمَلَ المؤمنينَ إيماناً أَحْسَنُهُمْ خُلُقاً))([4])، وقال أيضاً: ((مَا مِنْ شَيْءٍ يُوضَعُ فِي الْمِيزَانِ أَثْقَلُ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ وَإِنَّ صَاحِبَ حُسْنِ الْخُلُقِ لَيَبْلُغُ بِهِ دَرَجَةَ صَاحِبِ الصَّوْمِ وَالصلاة))([5]).
ولا شك أنَّ أغنى رصيد للإنسانية في ذلك هو القرآن الكريم، إلا إنَّه أعطى درساً دستورياً مكثفاً، بعيد الآفاق والأعماق في الأخلاق ـ أي أنَّه لم يعنى بالتفصيلات ـ ومن بعده تأتي وظيفة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم فهو أول من جاء حاملاً شعار مكارم الأخلاق، إلا أنَّ دوره كان التأسيس وطرح القضايا المبدئية، إذْ إنَّ المهمة الأساس كانت متمثلة بإقامة قواعد الإيمان وشعائره، كلما تراخى الصراع الدائر حول مبدأ التوحيد وأصل الرسالة.
لذا كان في مقدور الإمام أمير المؤمنين عليه السلام أنْ يقف تحت مظلة القرآن الكريم والرسول الأكرم، ويعمق المفاهيم الجديدة، ويركز الأُسس التي أتى بها القرآن والرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ابتداءً من أول الدين، وتوحيد الله، وصفاته تعالى، ومروراً بفلسفة الرسالات، وتقييم الإسلام ومفاهيمه وأحكامه، وشرح مواقف الرسول، وانتهاءً بوصف السماء، والأرض، والطاووس، والنملة، وأشياء كثيرة، وبحوث متنوعة، كان للجانب الأخلاقي فيها حيز كبير، تناوله المفسرون في تفاسيرهم)[6].
الهوامش:
([1]) الإسراء، 36، 37.
([2]) البقرة، 177.
([3]) مكارم الأخلاق، الشيخ الطبرسي، (ت 548هـ)، منشورات الشريف الرضي، 1392هـ ـ1972 م، 8، ظ : البحار، 16 / 21.
([4]) الكافي، 2/65.
([5]) سنن الترمذي، 3/ 245، ظ : الجامع الصغير، جلال الدين السيوطي، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، 1401هـ ـ 1981 م، 2/ 515.
([6] )لمزيد من الاطلاع ينظر: أثر نهج البلاغة في تفاسير الإمامية، الشيخ محسن الخزاعي، طبعة مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة: ص 192-194.