من ألفاظ الحياة الاجتماعية في نهج البلاغة قال عليه السلام ((فَاعْلَمْ أَنَّكَ إِنَّمَا تَخْبِطُ الْعَشْوَاء))

مقالات وبحوث

من ألفاظ الحياة الاجتماعية في نهج البلاغة قال عليه السلام ((فَاعْلَمْ أَنَّكَ إِنَّمَا تَخْبِطُ الْعَشْوَاء))

2K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 25-06-2023

بقلم: د. حسام عدنان الياسري.

الحمد لله الذي علا بحوله، ودنا بطوله، مانع كل غنيمة وفضل، وكاشف عظيمة وازل، والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله الاطهار.

وبعد:
العَشْواء: النَّاقَةُ التي لا تْبْصِر ما أمامها، فَتَخْبط كل شيءٍ بيدها، أو تقع في البِئْر؛ لأنها لا تتعاهد مَوْضِعَ أخفافها[1]. وقد وردت مفردة (العَشْوَاء) مرة واحدة في نهج البلاغة [2]، وصفاً للناقة العَشْوَاء التي لا تبْصر ما أمامها. وذلك في وصيّة الإمام لابنه الإمام الحسن (عليه السلام) في مقام توجيه الإمام (عليه السلام) له ولبقيّة النّاس بضرورة صفاء القلب وخشوعه، وإتمام الرأي في النّظر والفِكر معاً في الاستعانة بالله تبارك وتعالى. يقول (عليه السلام): ((وَابْدَأْ قَبْلَ نَظَرِكَ فِي ذلِكَ بِالاسْتِعَانَةِ بِإِلهِكَ، وَالرَّغْبَةِ إِلَيْهِ فِي تَوْفِيقِكَ... فَإذا أَيْقَنْتَ أنْ قَدْ صَفَا قَلْبُكَ فَخَشَعَ، وَتَمَّ رَأْيُكَ وَاجْتَمَعَ، وَكَانَ هَمُّكَ فِي ذلِكَ هَمّاً وَاحِداً، فَأنْظُرْ فِيَما فَسَّرْتُ لَكَ، وَأنْ أنْتَ لَمْ يَجْتَمِعْ لَكَ مَا تُحِبُّ مِنْ نَفْسِكَ، وَفَرَاغِ نَظَرِكَ وَفِكْرِكَ، فَاعْلَمْ أَنَّكَ إِنَّمَا تَخْبِطُ الْعَشْوَاء وَتَتَوَرَّطُ الظَّلْمَاءَ، وَلَيْسَ طَالِبُ الدِّينِ مَنْ خَبَطَ وَلاَ مَنْ خَلَّطَ...))[3]. والنّص في مقام النُّصْح والإرشاد، والتوجيه بالأخذ بأحَبِّ ما يكون إلى أمير المؤمنين من وصيّته، وهي ((تَقْوَى اللهِ... وَالاْخْذُ بِمَا مَضَى عَلَيْهِ الأولُونَ مِنْ آبَائِكَ، وَالصَّالِحُونَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِكَ...))[4]، فعدم التقوى سيؤدي بالإنسان إلى التّخَبّط كـ(تخَبْطَ العَشْوَاء). وذلك على سبيل التشبيه، مستعملاً مفردتي (تَخبْط) و (العَشْوَاء)، وهما من المفردات الدالة على الدواب وأفعالها، وبخاصة (الإبل) التي تكون الضعيفة البَصر متخبطة مضطربة، تضرب بأخفافها، وتخبط بها ما صادفها من أشياء. فاستعمل هذا الضّرب من التعبير لتشبيه المبتعد عن تقوى الله بالمتخبّط تخبط الناقة العشواء لأنه مُتَخَبِّط في دينه لا محالة، كما تَخْبِطُ العَشْواء من النّوق، التي لا تبصر ما أمامها.

أقول: وتعبير الإمام: (تَخْبِطُ العَشْواءَ) يحتمل عدة دلالات؛ منها أنْ يكون في الكلام حذف، والأصل فيه: (تَخْبِطُ خَبْطَ العَشْوَاءِ)، فحذفت مفردة (خَبْط)وهي في الأصل مفعول به للفعل (تَخْبط)، وفاعله ضمير تقديره (أنت)، وعلى هذا يكون تقدير الكلام (تَخْبِطُ خبطاُ يشبه خَبْطَ العَشْوَاِء). فَأمّا إذا قَدّرنا أنّ المُشَبّه به هو (الخَبْط)؛ بوصفه محور التعبير وغايته، فتكون مفردة (خَبْطَ) منصوبة بنزع الخَافِضِ، وهو حرف التشبيه (الكاف). على أساس أنّ المعنى هو: (تَخْبِطُ كَخَبْطِ العَشْوَاء)، فلّما أُريد تقوية التشبيه بين طرفيه، حُذِفَت منه الأداة، وكلمة (خَبْط)، ليتحُوّل الكلام من التشبيه إلى الاستعارة التي زادت من بلاغة التعبير، وجودة صياغته، وأضفت عليه تصويراً فنياً منحه ضرباً من الغرابة في التعبير، لِيَلْتَفت اليه السَّامع ويعني به، ويقف عند أهمية النصائح التي ذكرها (عليه السلام) والتي سيؤول حال المفّرط بها إلى التخبّط والاضطراب.
أمّا الدلالة الأخرى المحتملة من هذا التعبير، فهي موجهة نحو مفردة (العَشْوَاءَ)، التي يجوز عدّها - في هذا المقام - صِفةً حذف موصوفها، وتقدير المعنى هو: (تَخْبِطُ كالنّاقَةِ العَشْوَاءِ)، ولعل الرّغبة إلى الاختصار والجنوح نحو إبراز المشبّه والمشّبه به بهيئة واحدة من حيث قوّة التشبيه بينهما هو الذي دعا إلى حذف الموصوف وأداة التشبيه؛ ليبقى التعبير بحسب ما جاء في نص الإمام. وهذا الوجه من التأويل للكلمة المتقدمة يمكن أنْ يوصل إلى احتمالٍ آخر غير بعيد عن القبول، وهو أكثر اختصاراً وقبولاً من حيث مستويات الحذف والتقدير في التعبير السالف الذّكر، وذلك بأن يكون قوله (عليه السلام) مقتصراً على حذف أداة التشبيه من لفظة (العَشْوَاء) والتقدير قبل ذلك: (تَخْبِطُ كالعَشْوَاءِ)، أي: تَخْبِطُ كالعَشْوَاءِ من النُّوق التي لا تتعاهد مَوْضع أخفاقها[5]. وأصل (العَشْوَاء) - فيما يبدو - مَأخوذ من (العَشْو)، وهو الذي لا يبصِر بالليل، ويُبْصِر بالنهّار. فيكون قد ساء بَصَرُهُ من غير عَمَى[6]. فكأن الإمام أراد بذكر هذهِ المفردة الإشارة إلى دلالتين، الأولى هي التّخَبّط والاضطراب، والثانية العَمَى وسوء التّبَّصُّر والبَصِيْرة، وعدم الفهم. كأن الذي (يَخْبِطُ العَشْواء) كمَنْ يمشي في الظلام فلا يدري ما أمامه. ولهذا قال الإمام بعد كلمته المتقدمة: ((...وَتَتَوَرَّطُ الظَّلْمَاءَ، وَلَيْسَ طَالِبُ الدِّينِ مَنْ خَبَطَ وَلاَ مَنْ خَلَّطَ...))[7]. )[8].

الهوامش:
[1] ينظر: العين (عشو): 2/188، وتهذيب اللغة (عشو): 3/36، ولسان العرب (عشو): 15/57.
[2] ينظر: المعجم المفهرس لألفاظ نهج البلاغة: 304.
[3] نهج البلاغة: ك/31: 500، 501.
[4] نفسه.
[5] ينظر: العين (عشو):2/188، ولسان العرب (عشو):15/57.
[6] ينظر: جمهرة اللغة (عشو): 2/872، ومقاييس اللغة (عشو): 4/322.
[7] نهج البلاغة: ك/ 31: 501.
[8] لمزيد من الاطلاع ينظر: ألفاظ الحياة الاجتماعية في نهج البلاغة: للدكتور حسام عدنان رحيم الياسري، ط: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة: ص 38-40.

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.2307 Seconds