بقلم السيد عبد الحسين الغريفي المشهدي
الحمد لله رب العالمين، ثم الصلاة والسلام على سيّد الخلق أجمعين سيدنا ونبيّنا أبي القاسم المصطفى وعلى آله الطيبين الطاهرين، واللعن الدائم على اعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين.
وبعد:
في خطبة له عليه السلام في وصف الدنيا
وإِنَّمَا الدُّنْيَا مُنْتَهَى بَصَرِ الأَعْمَى، لَا يُبْصِرُ مِمَّا وَرَاءَهَا شَيْئاً، والْبَصِيرُ يَنْفُذُهَا[1] بَصَرُه، ويَعْلَمُ أَنَّ الدَّارَ وَرَاءَهَا، فَالْبَصِيرُ مِنْهَا شَاخِصٌ، والأَعْمَى إِلَيْهَا شَاخِصٌ، والْبَصِيرُ مِنْهَا مُتَزَوِّدٌ، والأَعْمَى لَهَا مُتَزَوِّدٌ[2]
شرح الألفاظ الغريبة:
أقول: الشاخص: الذاهل والمسافر، والشاخص أيضاً الذي يرفع بصره إلى الشيء ويمده إليه[3].
الشرح:
هذا الفصل مع قلة الفاظه يشتمل على لطائف:
فالأولى: أن الدنيا منتهى بصر الأعمى شيئاً، واستعار لفظ الأعمى للجاهل، كقوله تعالى: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}[4]
ووجه الاستعارة: إن الجاهل لا يدرك بعين بصيرته الحق كما لا يردك الأعمى من المبصرات.
وأشار بقوله: ((لا يبصر من ورائها شيئاً)): إلى جهله بأحوال الموت وما بعده من سعادة الآخرة وشقاوتها.
فإن قلت: إنه أثبت للأعمى العمى، وأثبت أنه يبصر الدنيا، وذلك نوع مناقضة؟!
قلت: إنه لما أراد بالأعمى أعمى البصيرة – وهو الجاهل استعارة – لم يكن في إثبات البصر الحسي له، ونظر الدنيا به مناقضة.
ويحتمل أن يريد ببصره أيضاً: بصر بصيرته استعارة، وظاهر أن منتهى بصر بصيرة الجاهل التصرف في أحوال الدنيا وكيفية تحصيلها والتمتع بها دون أن يفيده عبرة لما ورائها من أحوال الآخرة.
الثانية: قوله: ((والبصير ينفدها بصره)): استعارة لفظ البصير للعالم، ونفوذ بصره: كناية عن إدراكه ما وراء الدنيا من أحوال الآخرة، وعلمه أنها دار القرار.
الثالثة: قوله: ((فالبصير منها شاخص)): أي راحل مسافر قد جعلها طريقاً له إلى الآخرة.
((والأعمى إليها شاخص)): أي متطلع إليها بعين بصيرته ووهمه، وإن كان أعمى عن مصالحه الحقيقية وعن آفاتها وطرقها المخوفة وفي هذه الكلمة – مع التي قبلها – من أقسام البديع التجنيس التام والمطابقة بين الأعمى والبصير.
الرابعة: قوله: ((والبصير منها متزود)): أي بالتقوى والأعمال الصالحة في سفره إلى الله تعالى.
((والأعمى لها متزود)): أي متخذ للذاتها وقيناتها زاداً له في قطعها مدة عمره، قد جعل ذلك هو الزاد الحقيقي والكمال الذي ينبغي له، وهي في البديع كالتي قبلها. وبالله التوفيق[5])([6]).
الهوامش:
[1] في شرح نهج البلاغة لابن ميثم والشيخ محمد عبده: (يُنْقِذُهَا).
[2] نهج البلاغة لصبحي صالح: 191-192/ خطبة رقم 133، وفي نهج البلاغة للمحقق الشيخ العطار: 255/ خطبة رقم 133، وشح نهج البلاغة لابن ميثم 3: 155/ ضمن الخطبة رقم 132، ونهج البلاغة للشيخ محمد عبده 1: 270.
[3] شرح الألفاظ الغريبة في شرح نهج ابن ميثم 3: 155.
[4] الحج: 46.
[5] شرح نهج البلاغة لابن ميثم 3: 156/ شرح الخطبة رقم 132.
([6]) لمزيد من الاطلاع ينظر: الدنيا في نهج الإمام علي عليه السلام: السيد عبد الحسين الغريفي، ط: مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة: ص 141-144.