بقلم السيد عبد الحسين الغريفي المشهدي
الحمد لله رب العالمين، ثم الصلاة والسلام على سيّد الخلق أجمعين سيدنا ونبيّنا أبي القاسم المصطفى وعلى آله الطيبين الطاهرين، واللعن الدائم على اعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين.
وبعد:
في خطبة له عليه السلام في فناء الدنيا مخاطباً
أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا أَنْتُمْ فِي هَذِه الدُّنْيَا غَرَضٌ تَنْتَضِلُ فِيه الْمَنَايَا، مَعَ كُلِّ جَرْعَةٍ[1] شَرَقٌ وفِي كُلِّ أَكْلَةٍ[2] غَصَصٌ! لَا تَنَالُونَ مِنْهَا نِعْمَةً إِلَّا بِفِرَاقِ أُخْرَى، ولَا يُعَمَّرُ مُعَمَّرٌ مِنْكُمْ يَوْماً مِنْ عُمُرِه[3] إِلَّا بِهَدْمِ آخَرَ مِنْ أَجَلِه، ولَا تُجَدَّدُ لَه زِيَادَةٌ فِي أَكْلِه[4] إِلَّا بِنَفَادِ مَا قَبْلَهَا مِنْ رِزْقِه، ولَا يَحْيَا لَه أَثَرٌ إِلَّا مَاتَ لَه أَثَرٌ، ولَا يَتَجَدَّدُ لَه جَدِيدٌ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَخْلَقَ[5] لَه جَدِيدٌ، ولَا تَقُومُ لَه نَابِتَةٌ إِلَّا وتَسْقُطُ مِنْه مَحْصُودَةٌ ، وقَدْ مَضَتْ أُصُولٌ نَحْنُ فُرُوعُهَا، فَمَا بَقَاءُ فَرْعٍ بَعْدَ ذَهَابِ أَصْلِه[6].
شرح الألفاظ الغريبة:
تنتضل فيه: تترامى إليه؛ يخلق: يبلى؛ الغرض: الهدف[7].
الشرح:
غرض هذا الفصل ذم الدنيا وتقبيحها بذكر معائبها لتخف الرغبات فيها وتنصرف إلى ما ورائها من الأمور الباقية، فاستعار لهم لفظ الغرض، ووجه الاستعارة: كونهم مقصودين بسهام المنية من سائر الأمراض والأغراض كما يقصد الغرض بالسهام، وأسند الانتضال إلى المنايا مجازاً لأن القاصد لهم بالأمراض هو فاعلها بهم، فكان المجاز هاهنا في الإفراد والتركيب.
ثم كنى بالجرعة والأكلة عن لذات الدنيا، وبالشرق والغصص عما في كل منها من شوب الكدورات اللازمة لها طبعاً من الأمراض والمخاوف وسائر المنغصات لها.
وقوله: ((لا تنالون نعمة إلا بفراق أخرى)):
فيه لطف: وهو إشارة إلى أن كل نوع من نعمة فإنما يتجدد شخص منها ويلتذ به بعد مفارقة مثله، كلذة اللقمة مثلاً: فإنها تستدعى فوت اللذة بأختها السابقة، وكذلك لذة ملبوس شخصي أو مركوب شخصي وسائر ما يعد نعما دنيوية ملتذاً بها فإنها إنما تحصل بعد مفارقة ما سبق من أمثالها بل وأعم من ذلك، فإن الإنسان لا يتهيأ له الجمع بين الملاذ الجسمانية في وقت واحد بل ولا اثنين منها فإنه حال ما يكون آكلاً، لا يكون مجامعاً، أو حال ما هو في لذة الأكل لا يكون يلتذ بمشروب، وحال ما يكون جالساً على فراشه الوثير لا يكون راكباً للنزهة، ونحو ذلك.
وبالجملة لا يكون مشغولاً بنوع من الملاذ الجسمانية إلا وهو تارك لغيره.
وما استلزم مفارقة نعمة أخرى لا يعد في الحقيقة نعمة ملتذاً بها.
وكذلك قوله: ((ولا يعمر معمر منكم...)) إلى قوله: ((أجله)): لأن السرور بالبقاء إلى يوم معين لا يصل إليه إلا بعد انقضاء ما قبله من الأيام المحسوسة من عمره، فإذا هدم من عمره يوماً فيكون لذته في الحقيقية ببقائه مستلزماً لقربه من الموت. وما استلزم القرب من الموت فلا لذة فيه عند الاعتبار.
وكذلك قوله: ((ولا تجدد له زيادة في أكله إلا بنفاد ما قبلها من رزقه)): أي من رزقه المعلوم أنه رزقه وهو ما وصل إلى جوفه مثلاً، فإن ما لم يصل جاز أن يكون رزقاً لغيره.
وقد علمت أن الإنسان لا يأكل لقمة حتى يفنى ما قبلها، فهو إذن لا يتجدد له زيادة في أكله إلا بنفاد رزقه السابق، وما استلزم نفاد الرزق، لم يكن لذيذاً في الحقيقة، وروي: أكله.
ويحتمل أن يريد أنه إذا تجددت له جهة رزق فتوجه فيها طالباً له، كان ذلك التوجه مستلزماً لانصرافه عما قبلها من الجهات وانقطاع رزقه من جهتها، واللفظ مهمل يصدق ولو في بعض الناس فلا تجب الكلية.
وكذلك قوله: ((ولا يحيى له أثر إلا مات له أثر)): وأراد بالأثر الذكر أو الفعل، فإن ما كان يعرف به الإنسان في وقت ما من فعل محمود او مذموم أو ذكر حسن أو قبيح ويحيى له بين الناس يموت منه ما كان معروفاً به قبله من الآثار وينسى.
وكذلك لا يتجدد له جديد من زيادات بدنه ونقصانه وأوقاته إلا بعد أن يخلق له جديد يتحلل بدنه ومعاقبة شيخوخته بشبابه ومستقبل أوقاته لسالفها.
وكذلك لا تقوم له نابته إلا بعد أن تسقط منه محصودة، واستعار لفظ النابتة لمن ينشأ من أولاده وأقربائه، ولفظ المحصودة لمن يموت من آبائه وأهله.
ولذلك قال: ((وقد مضت أصول – يعني الآباء – ونحن فروعها)).
ثم استفهم على سبيل التعجب عن بقاء الفرع بعد ذهاب أصله، وقد صرح أبو العتاهية بهذا المعنى حيث قال:
كــل حيـاة إلـى ممــات وكل ذي جدة يحول
كيف بقاء الفروع يوماً وذوب قبلها الأصول[8] )([9]).
الهوامش:
[1] في نهج البلاغة لصبحي صالح ونهج محمد عبده: (جَرْعَةً) بدل (جُرْعَةٍ).
[2] في نهج البلاغة للشيخ العطار: (أُكْلَة) بدل (أكْلِة).
[3] في نهج البلاغة للشيخ العطار: (عُمْرِ) بدل (عُمُرِهِ).
[4] في نهج البلاغة للشيخ العطار: (أَكْلِه) بدل (أكْلِهِ).
[5] في نهج البلاغة للشيخ العطار: يُخلِقِ، وفي نهج محمد عبده: يُخْلَقَ، وفي شرح نهج ابن ميثم: يَخْلَقُ.
[6] نهج البلاغة لصبحي صالح: 202/ الخطبة رقم 145، ونهج البلاغة للشيخ العطار: 268/ خطبة رقم 145، وشرح النهج لابن ميثم 3: 191/ الخطبة رقم 144، ونهج البلاغة لمحمد عبده 1: 282.
[7] شرح الألفاظ الغريبة: 626، والألفاظ الغريبة في شرح نهج ابن ميثم 3: 191.
[8] شرح نهج البلاغة لابن ميثم 3: 191-193/ في شرح الخطبة رقم 144.
([9]) لمزيد من الاطلاع ينظر: الدنيا في نهج الإمام علي عليه السلام: السيد عبد الحسين الغريفي، ط: مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة: ص 144-147.