الدنيا في خطب الإمام علي عليه السلام في خطبة له (عليه السلام) الوصيّة بأُمور: منها في الموت

سلسلة قصار الحكم

الدنيا في خطب الإمام علي عليه السلام في خطبة له (عليه السلام) الوصيّة بأُمور: منها في الموت

984 مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 18-03-2024

بقلم السيد عبد الحسين الغريفي المشهدي

الحمد لله رب العالمين، ثم الصلاة والسلام على سيّد الخلق أجمعين سيدنا ونبيّنا أبي القاسم المصطفى وعلى آله الطيبين الطاهرين، واللعن الدائم على اعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين.

وبعد:
... وأُوصِيكُمْ بِذِكْرِ الْمَوْتِ، وإِقْلَالِ الْغَفْلَةِ عَنْه، وكَيْفَ غَفْلَتُكُمْ عَمَّا لَيْسَ يُغْفِلُكُمْ، وطَمَعُكُمْ فِيمَنْ لَيْسَ يُمْهِلُكُمْ! فَكَفَى وَاعِظاً بِمَوْتَى عَايَنْتُمُوهُمْ، حُمِلُوا إِلَى قُبُورِهِمْ غَيْرَ رَاكِبينَ، وأُنْزِلُوا فِيهَا غَيْرَ نَازِلِينَ، فَكَأَنَّهُمْ([1]) لَمْ يَكُونُوا لِلدُّنْيَا عُمَّاراً، وكَأَنَّ الآخِرَةَ لَمْ تَزَلْ لَهُمْ دَاراً، أَوْحَشُوا مَا كَانُوا يُوطِنُونَ، وأَوْطَنُوا مَا كَانُوا يُوحِشُونَ، واشْتَغَلُوا بِمَا فَارَقُوا، وأَضَاعُوا مَا إِلَيْه انْتَقَلُوا، لَا عَنْ قَبِيحٍ يَسْتَطِيعُونَ انْتِقَالًا، ولَا فِي حَسَنٍ يَسْتَطِيعُونَ ازْدِيَاداً، أَنِسُوا بِالدُّنْيَا فَغَرَّتْهُمْ، ووَثِقُوا بِهَا فَصَرَعَتْهُمْ([2]).

شرح الألفاظ الغريبة:
أغفله: سها عنه وتركه؛ يوطنون، أوطن المكان: اتخذه وطناً؛ اوحشه: هجره، حتّى لا أنيس منه به([3]).

الشرح:
مما أوصاهم به عليه السلام ذكر الموت وإقلال الغفلة عنه، وذلك لما يستلزم ذكره من الانزجار عن المعاصي، وذكر المعاد إلى الله سبحانه ووعده ووعيده والرغبة من الدنيا وتنقيص لذاتها كما قال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: أكثروا من ذكر هادم اللذات([4])، وإنما استلزم ذكره ذلك لكونه ما يساعد العقل فيه الوهم على ضرورة وقوعه مع مساعدته على ما فيه من المشقة الشاقة. ثم استفهمهم عن غفلتهم عنه وطمعهم فيه مع كونه لا يغفلهم ولا يمهلهم استفهام توبيخ على ذلك. ولأجل ما فيه من شدة الاعتبار، قال: ((فكفى واعظاً بموتى عاينتهم...)) إلى قوله: ((فصرعتهم)): وفي هذا القول زيادة موعظة على ذكر الموت وهي شرح أحوال من عاينوه من الموتى، وذكر منها أحوالاً:
أحدها: كيفية حملهم إلى قبورهم غير راكبين مع كونهم في صورة ركوب منفور عنه.
الثانية: إنزالهم إلى القبور على غير عادة النزول المتعارف المقصود فكأنهم في تلك الحال مع طول مددهم في الدنيا وعمارتهم لها وركونهم إليها لم يكونوا لها عماراً وكأن الآخرة لم تزل داراً، ووجه التشبيه الأول انقطاعهم عنها بالكلية وعدم خيرهم فيها فأشبهوا لذلك من لم يكن فيها.
ووجه الثاني كون الآخرة هي مستقرهم الدائم الثابت الذي لا معدل عنه فأشبهت في ذلك المنزل الذي لم يزل له داراً.
الثالث: إيحاشهم ما كانوا يوطنون من منازل الدنيا ومساكنها.
الربعة: إيطانهم ما كانوا يوحشون من القبور التي هي أول منازل الآخرة.
الخامسة: اشتغالهم بما فارقوا، وذلك أن النفوس الراكنة إلى الدنيا العاشقة لها المقبلة على الاشتغال بلذاتها يتمكن في جواهرها ذلك العشق لها وتصير محبتها ملكة وخلقاً فيحصل لها بعد المفارقة لما أحبته من العذاب به والشقا الأشقى بالنزوع إليه وعدم التمكن من الحصول عليه اعظم شغل وأقوى شاغل وأصعب بلاء هائل بل (تذهل فيه كل مرضعة عما أرضعت وتضع فيه كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد)([5]).
السابعة: كونهم لا يستطيعون الانتقال عما حصلوا عليه من الأفعال القبيحة التي ألزمتهم العذاب وأكسبت نفوسهم ملكات السوء، وذلك ظاهر، إذ الانتقال عن ذلك لا يمكن إلا في دار العمل وهي الدنيا.
الثامنة: وكذلك لا من حسن يستطيعون ازدياداً: أي من الأعمال الحسنة الموجبة للملكات الخيرية والثواب الدائم كما قال تعلا حكاية عنهم: ﴿ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا﴾([6]) الآية.
التاسعة: أنهم أنسوا بالدنيا حتى غرتهم.
العاشرة: كونهم وثقوا بها حتى صرعتهم، والسبب في الاغترار بها وغرورها هم حصول لذاتها المحسوسة مع قربهم من المحسوس وهو مستلزم للأنس بها المستلزم للغرور بها والغفلة عما وراها وهو مستلزم للوثوق وهو مستلزم لصرعتهم في مهاوي الهلاك حيث لا يقال عثرة ولا ينفع ندامة.
واعلم أن ذكر الموت وإن كان يستلزم الاتعاظ والانزجار إلا أن شرح الأحوال التي تعرض للإنسان في موته أبلغ في ذلك لما أن كل حال منفور عنها طبعاً وإن كانت تحصل النفرة عنها لكونها حالة تعرض للميت والمقرون بالمولم والمكروه مكروه ومولم ومنفور عنه طبعاً([7])) (([8])).

الهوامش:
([1]) في نهج البلاغة للشيخ العطار: كأنّهم.
([2]) نهج البلاغة لصبحي صالح: 278-279/ خطبة رقم 188، ونهج البلاغة للشيخ العطار: 372/ خطبة رقم 188، وشرح نهج البلاغة لابن ميثم 4: 188- 189/ خطبة رقم 230، ونهج البلاغة للشيخ محمد عبده 1: 385-386.
([3]) شرح الألفاظ الغريبة: 648.
([4]) انظر بحار الأنوار 82: 167، وبتفصيل أكثر.
([5]) ما بين القوسين اقتباس من الآية 2 من سورة الحج.
([6]) المؤمنون: 99-100.
([7]) شرح نهج البلاغة لابن ميثم 4: 189-191/ شرح الخطبة رقم 230.
(([8])) لمزيد من الاطلاع ينظر: الدنيا في نهج الإمام علي عليه السلام: السيد عبد الحسين الغريفي، ط: مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة: ص 208-211.

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.2802 Seconds