بقلم: السيد نبيل الحسني.
تناولنا في الحلقة السابقة دلالة أمره (عليه السلام) مالك الأشتر بنصر الله بقلبه ولسانه ويده وبينا العلة في جعل الأمر بالمرتبة الرابعة في أوامره، أي بعد الأمر بتقوى الله، ثم طاعته، ثم اتباع فرائض القرآن وسننه.
وسنتناول في هذه الحلقة الحكمة في جعله (عليه السلام) الابتداء بالقلب قبل اليد واللسان في نصر الله تعالى، وهو ما جمُع في فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتي حددها الحديث النبوي الشريف المرويّ عن أبي سعيد الخدري، قائلاً: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله)، يقول: «من رأى منكرا فاستطاع أن يغيره بيده فليفعل، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان» [1].
ومن ثمّ ما هي الحكمة في تقديمه (عليه السلام) القلب على اليد واللسان وهو أضعف الإيمان؟! وجوابه:
أنّ هذا الأمر ينماز من مجموع الأوامر في العهد بمدخليته في صناعة الإنسان والدولة في آن واحد، وذلك أنّ المعروف عند الفقهاء هو: (كلّ فعل حسن اختصّ بوصف زائد على حسنه، إذا عرف فاعله ذلك أو دلّ عليه.
والمنكر: كلّ فعل قبيح عرف فاعله قبحه أو دلّ عليه.
والحسن: ما للقادر عليه المتمكّن من العلم بحاله أن يفعله.
والقبيح: هو الّذي ليس للمتمكّن منه ومن العلم بقبحه أن يفعله.
والحسن شامل للواجب والندب والمباح والمكروه.
والقبيح: هو الحرام خاصّة.
والمعروف: ينقسم إلى الواجب والندب، فالأمر بالواجب: واجب، وبالندب: ندب، والمنكر: كلّه قبيح، والنهي عنه واجب. وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ثوابٌ عظيمٌ، قال الله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّة أُخرِجَتْ لِلنّاسِ تَأمُرُونَ بالْمَعْرُوفِ وَتَنْهونَ عَنِ المنكَرِ} [آل عمران: 110]. وقال: {لُعِنَ الَّذينَ كفَرَوا مِنْ بَني اِسْرائيل -إلى قوله- {كانُوا لا يتناهونَ عَنِ مُنْكَر فَعَلُوهُ} [المائدة: 78])[2].
ووجه الحكمة في ابتدائه (عليه السلام) الأمر بالقلب ثم اللسان ثم اليد، أي بخلاف ما نص عليه الحديث النبوي في الترتيب، هو أن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) ناظر إلى رجل الدولة الذي تترتب عليه تكاليف ومهام خاصة وذلك بوصفه حاكما ومتصرفا في أمر البلاد والعباد، ومن ثمّ فالأصل في بناء الحاكم وتهذيبه يبدأ من القلب فإن صلح قلبه صلحت سريرته وظهر على لسانه ويده عِبْر سنِّ الأحكام والقوانين والأمر بجهاد العدو ورد المظالم والدفاع عن المقدسات.
ومن ثمَّ فالإمام أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) يبدأ في بناء الإنسان القائد ولاسيما الحاكم من القلب لكونه أصل الصناعة ومركزها في العمل وبه يندفع له ويَهّمُ بإنجازه، وبه يقبل على الله يوم القيامة، وبه ينجوا إنْ تحققت فيه السلامة من الغل والشبهات.
فضلاً عن كونه أيسر وسائل الأمر والنهي الثلاثة، أي اليد واللسان والقلب، وذلك بالنظر (إلى القدرة والعجز: فإن عجزت اليد فباللسان، فإن عجز اللسان فبالقلب. وبالنظر إلى أن التأثير مقتصر على القلب، والمقاطعة، وتغيير التعظيم، فإن لم ينجع فالقول، مقتصرا على الأيسر فالأيسر، قال الله تعالى: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44]؛ وقال تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت:46].
ثم بالقلب، وأضعف الاَنكار القلبي، لقوله صلى الله عليه وآله: «وذلك أضعف الإيمان».
والمراد بالإيمان هنا: الأفعال، ومنه قوله (صلى الله عليه وآله): «الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق»[3].
وهذه التجزئة إنما تصح في الأفعال، وأقوى الإيمان الفعلي: اليد، ثم اللسان، ثم القلب لأن اليد تستلزم إزالة المفسدة على الفور، ثم القول، لأنه قد تقع معه الإزالة، ثم القلب، لأنه لا يؤثر.
وإذا لحظ عدم تأثيره في الإزالة، فكأنه لم يأت إلا بهذا النوع الضعيف من الإيمان. وقد سمى الله الصلاة إيمانا بقوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143]، أي صلاتكم إلى بيت المقدس)[4].
ومن ثمَّ: فإن الأمر بنصر الله يتحقق بهذه الفريضة وهي الأساس في تكوين شخصية الإنسان القيادي ولاسيما أن الحديث موجه إلى رجل يراد منه صناعة الإنسان والدولة، وهو بأمس الحاجة إلى النجاح في مهمته وما كُلف به، وأن ذلك لا يتأتى إلا عِبْر تحقيق المعادلة التي نص عليها الحديث الشريف بنصر «الله سُبْحَانَه بِقَلْبِه ويَدِه ولِسَانِه، فَإِنَّه جَلَّ اسْمُه قَدْ تَكَفَّلَ بِنَصْرِ مَنْ نَصَرَه وإِعْزَازِ مَنْ أَعَزَّه»[5].
الهوامش:
[1] الخلاف، الشيخ الصدوق: ج1 ص664؛ صحيح مسلم ج 1: ص 69 الحديث 78؛ سنن ابن ماجة: ج 2: ص 1330 حديث 4013؛ سنن أبي داود: ج1، ص296 الحديث 1140.
[2] تحرير الأحكام، العلامة الحلي:2 ص238.
[3] أورده بهذا اللفظ القرافي في: الفروق اللغوية: ج 4 / ص 256؛ ورواه مسلم باختلاف بسيط. انظر: صحيح مسلم: ج 1 / ص 63، باب 12 من كتاب الايمان، حديث: 58.
[4] القواعد والفوائد، الشهيد الأول: ج2 ص204.
[6] لمزيد من الاطلاع، ينظر: فقه صناعة الإنسان، الأوامر والنواهي في عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك الاشتر (رحمه الله)، دراسة في ضوء أصول الفقه والأخلاق، السيد نبيل الحسني، ص 116- 129/ مع بعض الإضافة، إصدار: مؤسسة علوم نهج البلاغة- العتبة الحسينية المقدسة، ط 1- دار الوارث كربلاء المقدسة 2023م.