بقلم: الدكتور سحر ناجي المشهدي
الحمد لله الأول قبل الإنشاء، والآخر بعد فناء الأشياء، أحمده استتمامًا لنعمته، واستعصاماً من معصيته، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على من اصطفى من الخلق أجمعين سيدنا ونبينا محمد وآل الطاهرين..
اما بعد:
تكرر هذا اللفظ ثلاثين مرة في النَّهْج ليدل على:
1 1) المعنى الحقيقي: فالإمام (عليه السلام) في بعض المواضع يقدم الجبال ؛ لأنَّ تسخيرها أعجب واولُّ في القدرة وأدخل في الإعجاز، وفي مواضع اخرى يؤخرها، وجاء (الجبل) مضافا الى كاف الخطاب: « ثُمَّ اسْتَوْصِ بِالتُّجَّارِ وَذَوِي الصِّنَاعَاتِ، وَأَوْصِ بِهِمْ خَيْراً: الْمُقِيمِ مِنْهُمْ، وَالْمُضْطَرِبِ بِمَالِهِ، وَالْمُتَرَفِّقِ بِبَدَنِهِ، فَإِنَّهُمْ مَوَادُّ الْمَنَافِعِ، وَأَسْبَابُ الْمَرَافِقِ، وَجُلاَّبُهَا مِنَ الْمَباعِدِ وَالْمَطَارِحِ، فِي بَرِّكَ وَبَحْرِكَ، وَسَهْلِكَ وَجَبَلِكَ،...»[1]. وفيه دلالة على ملكه العظيم في البر والبحر والسهل والجبل.
وقال في وصف بيته الحرام: «ثُمَّ وَضَعَهُ بِأَوْعَرِ بِقَاعِ الأرض حَجَراً، وَأَقَلِّ نَتَائِقِ الدُّنْيَا مَدَراً، وَأَضْيَقِ بُطُونِ الاْوْدِيَةِ قُطْراً، بَيْنَ جِبَال خَشِنَة، وَرِمَال دَمِثَة» [2].
فالبِقَاع: مثل جِبَال: قطعة من الأرض على غير هيئة من يجانبها، وضع الله بيته بأصعب قطع الحجر، وأغلظها، وأقل البلدان ترابا ومدرا، فلا تصلح للزراعة، ووصف الجبال بصفة الغلظ، والرمال بصفة الليونة، والمراد بكلا الوصفين (بعدهما من الإنبات)؛ فالرمل كلمَّا كان ألين وأسهل بَعُد عن الإنبات[3]، وقوله عليه السلام لابنه محمد بن الحنفية يوم الجمل: «تَزُولُ الجِبَالُ وَلاَ تَزُلْ! عَضَّ عَلَى نَاجِذِكَ أَعِرِ اللهَ جُمجُمَتَكَ، تِدفي الأرض قَدَمَكَ..»[4].
قابل بين ضِدِّين (تزول، لا تَزَل) وهو جناس ناقص، فـ(تزل) مفتقدة لحرف المَّد الواو، ومن صفات هذا الصَّوت الوضوح في السَّمع، فزوال الجِبَال يحتاج لزمن أطول، وكذلك حرف الواو، وحذف الفاعل لـ(تزل) وكلاهما وفَّرَ تركيبا بلاغيا جميلا للمثل فأحدث تركيبا نحويا مصاغا بدقة فيه جوانب فنية.
وحُذِف حرف الشرط (لو)، فتقدير الكلام (لو تزول الجبال لا تزل أنت) ففي هذا الحذف قيمة جمالية تحققت من خلال مراعاة الإيقاع المتمثل في الجناس فأثار الانتباه، وجلب اهتمام السَّامع[5].
وكنَّى عن صفة الرِّسوخ والثبات بقوله (تزول الجبال) وتشبيه الإمام ولده محمد الفارس الشجاع بالجبال، وكَنَّى عن الحِمْيَة بالعَّض على الأسنان فمن عادة الإنسان إذا حمي على عدوه يعضُّ على أسنانه و(تد في الأرض قدمك) كناية عن الشَّجاعة والاقدام[6].
والجَبَل اسم لكل وتدٍ من أوتاد الأرض اذا عظم وطال من الأعلام والأطوار والشناخيب والأنضاد. فاذا صغر من الاكام والقيران. وجِبْلَةُ الجبل: تأسيس خلقته التي جُبِل عليها. وجِبْلَةُ الأرض: صِلابها.، والجَبَل: الشجر اليابس، وجمعه أجْبال وجِبال[7].
«الجيم والباء واللام اصل يطرد ويقاس، وهو تجمع الشيء في ارتفاع. فالجبل معروف، والجبل: الجماعة العظيمة الكثيرة» [8].
وهو اسم لكل وَتِد من أوتاد الأرض اذا عظم وطال من الأعلام والأطواد والشناخيب والأنضاد وجبلة الأرض: صِلابها، والجِبِّلُّ: الخَلْقٌ، جَبَلهم الله، والجمع أجْبُل وأجْبال وجِبال، وأجبل القوم: صاروا في الجبال وتجبلوا أي دخلوها[9]
قال تعالى {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا * وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا}[10]
واستعيرت معانيه فأشتق منه بحسبه فقيل فلانٌ جبل لا يتزحزح تصورا لمعنى الثبات فيه، وجبله الله على كذا إشارة الى ما رُكِب فيه من الطبع الذي يأبى على الناقل نقله[11]. )([12]).
الهوامش:
[1] نهج البلاغة: الحكم القصار: خ 11، 20.
[2] نهج البلاغة: خ 192، 213.
[3] ظ: منهاج البراعة: خ 11، 20.
[4] نهج البراعة: خ 11، 20.
[5] ظ: المثل في نهج البلاغة: عبد الهادي عبد الرحمن: 153.
[6] ظ: اسلوب علي بن ابي طالب في خطبه الحربية: 199.
[7] ظ: العين (مادة جبل): 6 / 136 ـ 137.
[8] مقاييس اللغة: 1 / 502.
[9] ظ: لسان العرب (مادة جبل): 2 / 537.
[10] النبأ / 6 ـ 7.
[11] ظ: المفردات في غريب القرآن: 1 / 113.
([12]) لمزيد من الاطلاع ينظر: المعجم الاقتصادي في نهج البلاغة، للدكتورة سحر ناجي المشهدي، ط1، مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة، ص 227-230.